|
على العكس مما يقال عن فلسفة هيجل (1770-1831) بوجه عام، و فلسفته السياسية بوجه خاص أنها نظرية ميتافيزيقية و مثالية في الدولة، يهدف هذا المقال إلى إثبات خطأ هذا القول، و ذلك بتوضيح الدلالات الاجتماعية و الاقتصادية و التاريخية لفلسفة هيجل في الدولة، و بتوضيح أن وراء اللغة المثالية التي استخدمها هيجل في فلسفته السياسية تكمن نظرية في الدولة تضاهي و تتفوق على النظريات الليبرالية و الماركسية في نفس الوقت، كما أنها تتمتع بصحة و مصداقية إذا ما وضعناها في محكمة التاريخ، و بدلالات معاصرة إذا قارناها بالصورة التي اتخذتها الدولة بعد عصر هيجل.
و بما أن ماركس (1818-1883) هو المصدر الأول الذي يعتمد عليه كل من يقيم نظرية هيجل في الدولة على أنها مثالية و ميتافيزيقية و رفضها من أساسها بناء على ذلك، و ذلك لأن ماركس هو أول من قيمها هذا التقييم في كتابه ملاحظات في نقد فلسفة الحق عند هيجل الذي لم ينشر منه في حياته إلا المقدمة، فوجب علينا تناول هذا النقد الماركسي لنظرية هيجل في الدولة و توضيح سوء الفهم الذي يسود هذا النقد، و في المقابل توضيح أن فلسفة هيجل السياسية ليست مقطوعة الصلة بروح عصره و ظروف مجتمعه، بل تعد استجابة للقضايا التي أرقت هيجل و عصره الذي شهد الثورة الفرنسية و الحروب النابوليونية و عصر عودة الملكية Restoration. فهيجل نفسه هو الذي يعلن في تصديره لكتاب أصول فلسفة الحق أن مهمة الفلسفة هي أن تفهم ما هو موجود، لأن ما هو موجود هو العقل..و أن كلا منا هو ابن عصره و ربيب زمانه. و بالمثل يمكن أيضا أن نقول عن الفلسفة أنها عصرها ملخصا في الفكر.
سبق لعدد من الماركسيين الغربيين تناول فلسفة هيجل السياسية مثل لوكاتش و ماركيوز و أدورنو، و ما كان يشغل هؤلاء محاولتهم توضيح مثاليتها و بالتالي رفضها جملة على أساس أن ماركس قد استطاع تقديم نظرية سياسية بديلة عنها أكثر واقعية و ارتباطا بالاقتصاد و المجتمع. و سبق أيضا لعدد من المفكرين ذوي الميول الليبرالية أن حكموا على فلسفة هيجل السياسية بأنها تنادي بالدولة الشمولية التسلطية و ذلك مثل كارل بوبر و فريدريك هايك و بارسونز. و بالطبع ففي النصف الأول من القرن العشرين تم الربط بين فلسفة هيجل في الدولة و صعود النازية. و قد استخدمت فلسفته بالفعل في تدعيم بعض الأفكار الشمولية عن الدولة على يد كروتشة و باريتو في إيطاليا و بوزانكيت و برادلي في بريطانيا. و لم تتخلص فلسفة هيجل السياسية من هذه التأويلات الخاطئة إلا ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين. و يهدف هذا المقال إلى توضيح أن فلسفة هيجل السياسية بعيدة تماما عن هذه التأويلات و متفقة مع روح العصر أكثر مما اعتقد الكثيرون.
والحقيقة أن هيجل نفسه يتحمل بعض المسئولية عن سوء فهم فلسفته السياسية، و نظريته في الدولة على وجه الخصوص. فقد استخدم عبارات أوحت للكثيرين بتفسيرات خاطئة، و بالتالي تم نقدها على أساس هذه التفسيرات. فيذهب هيجل مثلا إلى أن الدولة هي اكتمال مسيرة الإله على الأرض، و هي الروح و قد وهبت نفسها التحقق الفعلي في مسار تاريخ العالم ( ) ، و هي قوة العقل المحقق لذاته (فقرة 258) و أن الدولة هي الروح و قد تموضعت Objectivized و أن واجب الفرد الأسمى هو أن يكون عضوا في الدولة ( ) . الواقع أن اللغة المثالية المجردة التي استخدمها هيجل في فلسفته السياسية لا تعني أن نظرياته السياسية مثالية أو ميتافيزيقية، فوراء هذه اللغة تكمن أفكار اجتماعية و تاريخية و تحليلات أصيلة و نظرية واقعية في الدولة بها العديد من الدلالات المعاصرة التي تتفق مع روح الدولة الحديثة. لقد كان على هيجل نفسه أن يستخدم هذه اللغة المثالية المجردة و ذلك كأسلوب اختزالي للتعبير عن أفكار كثيرة و هامة في عبارات قليلة و قصيرة.
ألم يقل هيجل نفسه إن الفلسفة هي عصرها ملخصا في الفكر؟ و فلسفته هو على وجه الخصوص هي عصرها ملخصا في الفكر. فانظر كيف يكون هذا الفكر الذي يلخص عصرا بأكمله، و هو عصر التحولات الكبيرة في التاريخ و الفكر، عصر الثورة الفرنسية و التنوير. و بالطبع سوف يكون هذا الفكر غاية في التجريد للتعبير عن خبرات مثل هذا العصر المحوري من تاريخ العالم. كل ما هنالك أن لغة هيجل و فلسفته تحتاج إلى ترجمة لكي يتم فهم و تقدير معناها و مغزاها السياسي، و في نفس الوقت لإدراك دلالاتها المعاصرة. فإذا كانت فلسفة هيجل السياسية هي نظرية فلسفية في الدولة الحديثة، فسوف نحاول ترجمتها إلى نظرية سياسية في الدولة الحديثة.
نقد نظريات الحق الطبيعي و العقد الاجتماعي:
لا يمكن فهم فلسفة هيجل في الدولة إذا اقتصرنا على تناول كتابه أصول فلسفة الحق، فلهيجل كتابات في النظرية السياسية سبقت فلسفة الحق بعضها نشره في حياته مثل نظريات الحق الطبيعي، و بعضها الآخر كان ملاحظات كتبها هيجل لاستخدامها في محاضراته أثناء تدريسه في جامعة يينا Jena ، و لم تنشر إلا في القرن العشرين. تحتوي هذه الأعمال المبكرة على نقد لنظريات الحق الطبيعي Theories Natural Right و العقد الاجتماعي Social Contract Theories ، و هي جزء لا يتجزأ من فلسفته السياسية، و لا يمكن فهم فلسفته في الدولة بدونها.
يعارض هيجل اتجاه الفلسفة السياسية الحديثة منذ هوبز و مرورا بلوك و هيوم و روسو في تحليل الحياة السياسية إلى أدق تفاصيلها و أصغر مكوناتها و الرجوع إلى الأفراد باعتبارهم الذرات المكونة لأي نظام سياسي، و هو بذلك يقف ضد النـزعات الفردية Individualism و الذرية Atomism السائدة لدى الليبرالية. و يرفض هيجل بدء نظريات الحق الطبيعي و العقد الاجتماعي بالفرد بناء على أن وعي الفرد بذاته باعتباره فردا لا يمكن أن يكون معطا أوليا مبدئيا، بل هو نتيجة عملية تمايز و اختلاف عن البيئة الأصلية للفرد، عملية تتصف بأنها تاريخية و اجتماعية. إن بدء الفلسفة السياسية الحديثة بفرد عاقل و ناضج بالكامل دليل على عدم إدراكها لتاريخية الوجود البشري و عدم انتباهها لعمليات التطور التي مر بها الفرد حتى يكون فردا و يحصل على وعي بفرديته. و الحقيقة أن هيجل في فينومينولوجيا الروح يعطينا وصفا لعملية الرقي التدريجي للوعي من أولى مراحل اليقين الحسي و الارتباط اللامتمايز بالطبيعة و حتى الوصول لمرحلة العقل