|
في الأعوام السابقة، لم تكن الصحافة السعودية تجرؤ على التطرق إلى قضايا أو أوضاع البدون، لكن تكشفت الملفات التي كانت خلف أوراق الصحف مع تزايد جرأة النقد والملاحظة في الإعلام، ووفادة شبكات التواصل الاجتماعي التي نقلت الصوت الغائب في بئر الخوف من الإبعاد إلى اللامكان.
البدون في السعودية، لا يصل عددهم إلى ما هو عليه في بعض الدول الخليجية، لكنهم يشكلون رقما في تواجدهم المكاني والمجتمعي، ويجدون حرمانا كبيرا في الاستفادة من بعض الخدمات، خاصة التعليمية والصحية التي تعد من الأساسيات، رغم تداخلهم في نسيج المجتمع وتعزيز روابطه الاجتماعية.
ورغم عدم وجود إحصاء رسمي لهم، ترى وزارة الداخلية السعودية أن تجنيس “البدون” لا يزال في بدايته، وأن ذلك الأمر يعد “سياديا للدولة”، وأن الدولة لها الحق في أن تمنح أو لا تمنح، ولذلك جوانب عدة معتبرة على لسان وكيلها للأحوال المدنية أن التجنيس “معقد وصلاحيته لا تعطى لأي مسؤول بالدولة” في وقت أمر فيه العاهل السعودي الملك عبدالله بعلاج “البدون” في المستشفيات وقبولهم في المدارس، بعد ملاحظة التقصير في تطبيق أوامر سابقة بحقهم.
ويسعى مجلس الشورى السعودي، مع قصور يده إلى تبني قضية البدون التي يعلنها بعض أعضائه من وقت إلى آخر، لكنهم يجدون الحاجة إلى من يرفع يدهم القصيرة إلى العالي، وتقف معهم في ذات الجانب جمعية حقوق الإنسان التي تطالب بوضع سقف زمني لإنهاء قضية البدون قبل أن تتفاقم إلى أخطار أمنية واجتماعية.
الشيعة
ربما يكون وضع الشيعة في السعودية مختلفا، ولا يصل إلى مرحلة سابقيهم، لكنه يشهد بعضا من التفاوت في التعامل مع شيعة ينبض غالبهم بحب وطنهم، مع أصوات نشاز تتجه إلى قبلة “قم” إيران، وتقدس العمائم السوداء المتوجة للثورات الإسلامية، لكن شيعة السعودية في تعددية المناطق يظهرون شرقا وغربا وجنوبا.
أما في القطيف، التي لا يظهر اسمها لدى السعوديين إلا معارضة للحكومة، فيبرز فيها من هم في مواقف وطنية، ومنهم كذلك من يرى أن الحكومة على مر عصورها تسعى إلى إضعاف وجودهم عبر تغييب مشاريع خدمية وتحييد مشاركات وتوظيف أبنائها في مواقع حكومية مختلفة، فيجدون ضالتهم باللجوء وظيفيا إلى دول الجوار الخليجي، خاصة البحرين.
في الغرب، وفي المدينة المنورة بالتحديد، يتواجد عدد من الشيعة، لكن صوتهم أقل ضجيجا من أي حراك، فيعيشون بين نخيلهم رافعين راياتها الخضراء ولاء للأرض والمكان، وإن ظهر في أزمنة ماضية بعض النشاطات غير المحببة للأنظمة في المملكة.
إلى الجنوب، من منطقة نجران يظهر شيعة من طراز مختلف، يتصل ببداوة المكان ولا ينشق عن القوة الاجتماعية، بل يعد شيعة نجران الأكثر تواجدا في مناصب حكومية خاصة في الجانب العسكري في قطاعات الحرس الوطني والجيش السعودي، ويظهر التمايز معهم عن غيرهم من الشيعة في المناطق الأخرى، بينما لا يتميز وضعهم في الرؤية المجتمعية عن بقية صفوف الشيعة.
الخليط الحجازي
حجاج بقوا بعد إتمام الفريضة، ولم يعودوا إلى ديارهم، وهؤلاء يصنفون ضمن فئات الهويات القلقة، لاعتبارات مجتمعية أكثر منها حكومية، فهم يظلّون في موقف محبب وأكثر ودّا وقربا من الفئتين السابقتين، لكنهم في وضعهم، يرى طيف كبير منهم، خاصة من استطاعوا الحصول على الجنسية السعودية في مواقف كثيرة، أنهم يجدون التمييز وهو ما يجعلهم في موقف القلق، بينما لا يعدو ذلك تصرفات فردية من قبل تنفيذيين في القطاعات العامة السعودية وكذلك الأهلية على وجه محدود.
يصنّفهم عدد من مزايدي الوطنية بمسميات عديدة وهؤلاء استوطنوا بلاد مكة والمدينة، وعاشوا فيها دون أي عمق تاريخي اجتماعي في الأرض، لذلك يكاد وجودهم المعيشي ينحصر في مناطق معينة دون غيرها، إذ يجدون أنفسهم تحت النقد واللمز والتضييق، خاصة في مناطق الوسط الجغرافي داخل المملكة.
يجاورون المقدسات الدينية، ولم يسلموا كبقية المجتمعات المختلفة، في الأطراف، من التمييز على أسس عنصرية، فيتواجد أكثريتهم في مناطق نشأتهم، لأن الخليط الحجازي في مكة والمدينة وجدة يعتبر ذا طابع أكثر تفتحا وتقبلا للتعايش أكثر من مجتمعات الصحراء وغيرها.
وإن كانت بعض أسرهم، التي تحمل المسميات الآسيوية أو التركية في لقبها العائلي، راضية إلى حد ما وتنال كافة حقوق السعوديين، لكن قلقها نابع من أرض المجتمع الكبيرة التي تحيد عنهم إلى موجات قبلية أكثر قربا منهم، رغما عن تزاوج أطياف عديدة بينها وأسر قبلية أخرى.
أبناء جازان
من جديد البوصلة تتجه إلى الجنوب، لكن هذه المرة إلى منطقة جازان، مركز المخلاف السليماني، أهلها مشهود لهم بالثقافة والتمكن من القضاء، من انتقل منهم خارج حدود المنطقة تجاوز النقمة الكلامية واللمز، وتمسك بأرض المهجر التي انتقل إليها، ولا يختلف عدد كبير من السعوديين على أن وجود أبناء جازان يتفاوت بين المناصب العليا أو الدنيا، إما انطلاقة إلى الأعلى أو عيش في طبقة العمالة.
لا تخلو وظائف حراس الأمن المدنيين، أو ما يعرف داخل المملكة بـ”السكيورتي” عن وجود طيف كبير من أبناء تلك المنطقة فيها، فهم اعتادوا على العيش برضى وسلام، رغم أن التنمية المكانية في منطقتهم أدارت ظهرها لهم لأسباب عديدة وهو ما صرح به العاهل السعودي الملك عبدالله في أوائل أشهر توليه الحكم في بلاده.
تلك التنمية الناقصة كان لها أثر في تقليص وجود أبناء جازان في مناح عديدة وفي التواجد، لكنها اليوم بدأت في التقلص كثيرا واتجهت إلى التطور حتى أضحت جازان المكان في طور التشكل بأسلوب يرضاه سكانها ومحبوها، أما أبناؤها فلا يزالون في مهمة فرض الوجود وتشتيت كل الكلام المنقوص عنهم.
الحضارم
هم طائفة كبيرة امتهنت التجارة، ونال بعض منهم الجنسية قبل حرب الخليج 1990 وبعضهم عاد بعد حملات تصحيحية من قبل السلطات السعودية المعنية بالهجرة والجوازات، لكنهم قوة لا يستهان بها في تأسيس ثقافة الاقتصاد وكانوا خير سند لأصحاب المال خاصة في الحجاز السعودي.
قدومهم من حضرموت اليمن إلى مناطق توافد الحجاج فتح لهم الخير الكبير، منهم من يعيش اليوم مالكا لخزائن المال صانعا له بماله، ومنهم من كان قوة في الثقافة وقاد ثورة تعليمية في مناطق الحجاز، بل وكانوا أول من وقف مع مؤسس الكيان السعودي الملك عبدالعزيز.
قلقهم اليوم كهوية، هو في عدم نيل غالبهم جنسية المكان، رغم ترعرعهم فيه واستفادتهم من خيراته، بل وكانوا صنّاع تلك الحضارة المالية والاقتصادية، وقذفت الحملة التصحيحية الخيرة من قبل السعودية ببعضهم إلى مسقط الرأس الإسمي، رغم تجاوز وجودهم مئات السنين، لكنهم يظلون من جانبين حكومي ومجتمعي متعرضين لبعض التضييق عليهم وعدم نيلهم كل ما يطمحون له.
مقولاتهم الشهيرة، إنهم سيقفون مع السعودية قبل اليمن في كل ضراء، وسيزيدون بسطتها في السراء، معترفين بفضل المكان عليهم، وأنهم يستحقون التمييز، لا أن تدار عليهم ظهور الأنظمة وتجمعهم مع بقية العمالة والوافدين في سلة واحدة، مستاء بعضهم من إغفال إسهاماته، فيما يرى بعض منهم أن الخير قادم، وأن السعودية حضنهم الذي يجمع ولا يفرق.
الجالية البرماوية
ربما يكون البرماويون الأكثر حظوة من غيرهم من الهويات الباحثة عن الجنسية والاعتراف بوجودهم، فبعد أربعين عاما على التواجد على أرض السعودية، والانتشار فيها، عالجت الحكومة السعودية أوضاع الجالية البرماوية أو من يسمون الأركانيون (نسبة إلى إقليم أركان بدولتهم الرئيسية ميانمار) ويتجاوز عددهم في المملكة 600 ألف نسمة، عبر منحهم إقامات ممتدة تصنفهم كمواطنين من الدرجة ثانية.
كانت الإجراءات الحكومية قبل العام 2013 تقف ضدهم في نيل أية حقوق أو خدمات، ورضوا لأكثر من أربعين عاما في المعيشة عبر مهن يدوية بسيطة، هاربين من ويلات حروب وانقلابات بلدهم واستوطنوا أحياء مكة وجدة، بعد أن قدموا إليها من باب العمرة والحج الكبيرين، وجعلتهم الحكومة السعودية قبل بدء حملاتها التصحيحية الأخيرة على العمالة والوافدين في موقف المواطنة المتأخر خطوة عن سكانها الأصليين، فاحتفلوا ورضوا ونالوا حقوقا غابت عنهم.
وتناسوا بعد الموقف السعودي معهم جوازات السفر متعددة المصادر من دول آسيوية، حيث كانوا شبهة حينها في كل أمر أمني. وفي العام 2013 بدأت السلطات السعودية تسوية أوضاع الجالية البورمية، التي تضم مئات آلاف المسلمين البورميين الذين بدأوا بالتوافد إلى المملكة منذ أواخر الستينات ويسكنون في مدينة مكة المقدسة، ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن متحدث باسم إمارة مكة المكرمة قوله إن “قرار منح الإقامة “خضع لدراسات عدة من جهات حكومية شملت وزارتي الداخلية والخارجية، بالإضافة إلى الإمارة”.
وسلم أمير منطقة مكة خالد الفيصل مؤخرا أولى بطاقات الإقامة، ونقلت الصحف عن الفيصل قوله إن “المشروع يعتبر معالجة جذرية للأحياء العشوائية (…) ويتميز بعدم اقتصاره على إعادة تخطيط وبناء هذه الأحياء بطريقة عصرية، إنما يعالج مشكلة الإنسان” فيها.
ولا تصنّف السلطات السعودية البورميين بين مخالفي أنظمة الإقامة والعمل، لأن وصولهم إلى السعودية تم بتشجيع منها إبان عهد الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز. ومنذ ذلك العهد، بدأ البرماويون بالتكاثر حتى فاض العدد، وأصبحت تعرفهم في المساجد، وكانوا أئمة ومؤذنين وقائمين عليها، حتى أن تلك المساجد أصبحت أكاديميات لتخريج أئمة انتشروا في مدن عديدة داخل السعودية، واستفادوا اليوم من إقاماتهم “غير العادية” لدخول سوق العمل وكذلك الاستفادة من خدمات التعليم، وغيرها وسيحملون في إقامتهم مسمى “برماوي”.
يعتبر أهل بورما في أنحاء العالم أكثر الأقليات اضطهادا ومعاناة وهو ذات الأمر الذي ينطبق على الأقلية المسلمة في بلدها الأم بورما. ولا يزال سكان إقليم (أراكان) يتعرضون للإبادة والتهجير منذ العام 1962 وتستمر متفاوتة حتى اليوم، كان آخرها جرائم إبادة في أواخر العام الماضي.
قلقهم زال، وليس كله، لأنهم يودون خوض غمار العمل داخل المملكة التي يزيد عدد العاملين فيها من غير السعوديين عن الثمانية ملايين نسمة، إضافة إلى العدد الذي يحسبون به في الكيان المجتمعي، علاوة على اللعنات التي تتقاذفهم من كل صوب لجنسياتهم الأقل من عادية، ويتشابهون مع “الدبون” في القلق، حيث أن كل القرارات العليا لا تنفذ بصورتها التي يأملون.
فلسطينيو الشتات
يتجاوز عدد الفلسطينيين أو من يسمون بـ”فلسطينيي الشتات” الهاربين من ويلات الاحتلال الإسرائيلي وحروب المكان والتهجير التي عانوا منها، في السعودية ربع مليون نسمة، تقطن غالبيتهم مناطق مكة والمدينة وجدة والرياض، وتعد جاليتهم الأكثر هدوء بل والأكثر سلامة وقربا من المواقف السعودية التي لا يخرجون عليها.
أملهم في تصحيح أوضاعهم كبير، ويحلمون بذات الإجراء الذي اتخذ مع البرماويين المقاربين لهم عددا، بل وينافسون كونهم الأكثر قدرة على التأقلم مع الأوضاع السعودية معيشة اجتماعية واقتصادية، ورغم أن تلك المطالبات تعتبر عادية، لكن فهم طبيعة الإجراءات والتعامل الحكومي السعودي توجب عليهم الصبر والجلد لنيل كل آمالهم.
من أبناء الفلسطينيين في السعودية من يقود منهجا دينيا في مساجد عديدة داخل المملكة، مؤسسين لمدراسهم الدينية داخل المساجد السالمة من كل حملات ترحيل المخالفين والمقيمين بصورة غير شرعية، ويحاولون عبر كل تلك الأبواب التأكيد على مجاورتهم للنسق المجتمعي ومن قبله الحكومي في المملكة.
4 فلسطينيين مقابل كل سعودي
فوجئت الأوساط في ربيع العام 2012 بقرار صادر عن وزارة العمل السعودية، يقضي بتوظيف عامل سعودي واحد في نسبة السعودة مقابل كل أربعة يتم توظيفهم من الفلسطينيين والبوارمة، وتسبب القرار في تخوف المواطنين السعوديين من انخفاض فرص حصولهم على العمل، رغم الترحيب العام بالاهتمام بالجاليتين الفلسطينية والبورمية.
القلق من الهوية
الهويات القلقة في السعودية، تتفاوت، وتود العيش بطريقة ترضاها، لكن حتى على المستوى الديني يظل القلق من إظهار أي هوية دينية محط تساؤل وربما قذف، وإبعاد عن المواطنة. والسعودية بلد يطمح إلى الحضارة بأدواته، لكن كل تلك الأدوات المجتمعية تظهر بوجيهن وتتقاذفها حبال عديدة إلى باطن الأرض، لتؤسس قلقا يؤثر على منهج الحقوق والتعايش المتشكل داخل النفس وخارجها.
القلق من الهوية، بؤرة صراع في كافة حضارات العالم، وإن ذكرت المملكة العربية السعودية، فلأنها جزء من نسيج العالم، المتأثر والمؤثر، وكل قلق في مجتمع هو بؤرة لاشتعال الخلافات والألم الذي ستتوارثه الأجيال، ولن يحسمه سوى المعجزات الكونية.