عن موقع المركز العربي للدراسات | |
بواسطة: د. عصام عبد الشافي*
بتاريخ : الثلاثاء 25-09-2012 |
بين المنطلقات الفكرية والإساءات الفردية
خاص المركز العربي للدراسات والابحاث
فى العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادى والعشرين، تعددت المواقف والمناسبات التى كان على صانعي السياسة الأمريكية أن يقدموا تصريحات رسمية حولها، والتى يكون بعض المسلمين طرفا فيها، أو يحتمل أن تتضمن هذه التصريحات ما يمس مشاعر المسلمين داخل الولايات المتحدة، وخارجها، الأمر الذى تطلب تطوير سياسة خارجية أمريكية محددة ومعلنة تجاه الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد تمحورت هذه السياسة حول التأكيد الرسمي المعلن، على أن الولايات المتحدة لا تعتبر “الإسلام” أيديولوجية مواجهة للغرب، بل إنها تحترم الإسلام وتعتبره واحدا من أعظم الأديان. أما أولئك الذين يلجأون إلى العنف واضطهاد الأقليات، وعدم التسامح، ويرفضون التعددية السياسية ويخالفون الأعراف المقبولة دوليا حول حقوق الإنسان، فإن الولايات المتحدة تعارضهم بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية
وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001، بدأت الإدارة الأمريكية، فى إطار دبلوماسيتها العامة، إصدار بيانات تؤكد أن الإسلام ليس محل اتهام، وأنه قوة إيجابية فى العالم وديانة تدعو للسلام والتسامح. وجاء هذه التحرك، على مستويين:
مصلحياً، لتفادى حركة ارتدادية تنبع من أعمال العنف والعداء الموجهة ضد الأقليات المسلمة فى المجتمع الأمريكي، وكذلك دفع حكومات الدول الإسلامية إلى تقديم الدعم اللازم لجهود الإدارة الأمريكية فى مواجهة الإرهاب
ودينياً: في محاولة لإسقاط المفهوم الأمريكى عن الدين على الإسلام، فى إطار التوجهات الأمريكية المعلنة بفرضها نموذجها الديني/ القيمي، على العالم، انطلاقاً من رؤيتها لدورها الرسالي في العالم.
وفي إطار هذين المستويين، تعددت التوجهات الأمريكية الرسمية تجاه الإسلام، وتفاوتت ما بين توافقية (جاءت فى إطار عمليات الدبلوماسية العامة التي تبنتها الإدارة الأمريكية خلال هذه المرحلة لفرض نموذجها القيمي والمعرفى من ناحية، وتحسين صورتها بعد تداعيات حربها على الإرهاب من ناحية ثانية) وصراعية، (جاءت فى إطار سياسات القوة الأمريكية، ببعديها الديني والمصلحى، والتى أكدت إلى أى حد امتزج هذان البعدان، ولم يكن الأول مجرد رداء أو مبرر للثاني، بقدر ما كان مرجعية ودافعاً، يقوم على صعيدهما تحقيق المصالح الأمريكية، وبما يؤكد أن النموذج الأمريكي هو فى جوهره نموذج مشتق من رؤى ومنطلقات دينية).
ففى إطار الدبلوماسية العامة التى تبنتها السياسة الأمريكية في مرحلة ما بعد سبتمبر 2001، تجاه العالم الإسلامى، تنوعت المواقف ما بين الإشادة بالدين الإسلامي، والاعتراف الرسمي بالإسلام، كديانة عالمية كبرى، والاهتمام بالمناسبات الإسلامية، والتواصل مع المنظمات الإسلامية داخل الولايات المتحدة وخارجها، والخطب الحماسية التي صدرت عن الرئيس الأمريكي باراك أوباما في عدد من عواصم الدول الإسلامية.
فقد تعددت التصريحات الأمريكية الرسمية التى تشيد بالإسلام، وإسهاماته فى الحضارة الإنسانية، وأكدت على التمييز بين الإرهاب والإسلام، وأن أيديولوجية الإرهاب مختلفة جداً عن مبادئ دين الإسلام العظيم، وأن الإرهابيين متعصبون ومتطرفون”، وأن تطرفهم يستغل الإسلام لخدمة رؤيا سياسية عنيفة، هدفها إقامة إمبراطورية دكتاتورية، بواسطة الإرهاب والتدمير والتمرد، تمنع كل الحريات السياسية والدينية”
وأن “الإسلام الحقيقى دين سلام” و”المسلمون يحترمون قيم غيرهم”. و”هناك قيماً مشتركة بين الديانات السماوية الثلاث”. مما يؤكد الحاجة إلى “تفاهم اكبر بين العالم الإسلامى والغرب”، وإيجاد سبل “لتواصل أفضل بين الأفراد”. وأن “تقويم النصر أو الهزيمة فى الحرب على الإرهاب، يقاس بمقدار إرساء ديموقراطيات جديدة فى أنحاء العالم، لتقليص المساحة التى يمكن العدو إيجاد مأوى فيها”.
كما تضمنت هذه التصريحات حث الشعوب الإسلامية وحكوماتها على دعم الديمقراطية والاعتدال، والتأكيد على أن الولايات المتحدة ليست فى حالة حرب مع الإسلام”، ولكن ليس على حساب المصالح الأمريكية. وأن الحرب “ليست صراعا ضد .. الدين الإسلامي”. ولكنها “صراع عبر العالم لأناس شرفاء مسلمين ضد القلّة التى تريد أن تفرض رؤيتها عليهم”. والتأكيد على رفض فكرة حتمية حدوث صدام بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، انطلاقاً، من اعتبارات تاريخية وقيمية مشتركة
إلا أنه رغم أنه إذا كان الظاهر من هذه التصريحات، رؤية إيجابية تجاه الإسلام، فإن تحليلها الدقيق يكشف غير ذلك، ففى ثنايا عبارات المدح والثناء، يأتى التأكيد على أولوية القيم الأمريكية، ورؤيتها للديمقراطية والحرية، والنظر لإرسائها ونشرها في العالم، مصدراً لتخليصه من شرور الإرهاب، كما تتصورها الإدارة الأمريكية.
كما أن الغالب على هذه التصريحات محاولة حصر الإسلام في مجرد شعائر وطقوس رمزية، وفق المنظور الأمريكى للدين، وتحجيم دوره كنظام للقيم وكنموذج حضارى، والتأكيد فى الوقت نفسه على الخلفية الصراعية بين الإسلام والغرب، وأنه كان “ماضياً دمويا”، وهو ما يشير إلى تأثير هذه الخلفية على صياغة التوجهات والسياسات الأمريكية تجاه الإسلام بين 2001 و2012.
وفى 2 أكتوبر 2007، وافق مجلس النواب الأمريكى، بإجماع الأصوات على قرار يعتبر الإسلام ديانة عالمية كبرى، ويشيد بالمسلمين فى الولايات المتحدة وأنحاء العالم كافة. ويشير إلى ما تعرّض له المواطنون الأمريكيون من أصل عربى وأفريقى وآسيوى من تهديدات وحوادث عنف، وخصوصا ما تعرض له المسلمون منهم، على خلفية الهجمات التى وقعت فى 11 سبتمبر 2001
وبجانب هذه السياسات المرنة، واستناداً لتوجهاتها القيمية والدينية، وأمام سيطرة تيارات اليمين الدينى والسياسي على صياغة هذه التوجهات، تبنت السياسة الأمريكية، بشقها الرسمي فى تعاطيها مع الإسلام، عدداً من السياسات الصراعية، التى تهدف منها إلى تشويه مرجعيته الدينية، وقيمه ونموذجه الحضارى، والربط بينه وبين الإرهاب، بل والفاشية، والاعتداء على المصدر الرئيس لهذه المرجعية وتلك القيم، القرآن الكريم، ودعم المرتدين عن الإسلام، بدعوى الدفاع عن الحريات الدينية، بصيغتها الأمريكية.
ومن بين الممارسات التي تعكس هذه السياسات:
1ـ إثارة قضية “الخلافة الإسلامية” كفزاعة أمريكية:
خلال خطاباته عن “الحرب العالمية ضد الإرهاب”، لوّح الرئيس السابق جورج دبليو بوش بخطر عودة “خلافة” إسلاميّة كبرى تسيطر من أوروبا إلى آسيا وفى يناير 2005، حذر تقرير “المجلس القومى للاستخبارات” الأمريكي، حول “رسم خريطة المستقبل العالمي”، من تأثير حركة عقائدية عالمية قوية، تستمد وقودها من “الهوية الإسلامية المتشددة”، تحاول “استنهاض خلافة إسلامية”، وتشكل “تحديا صارخا للعادات والمبادئ الغربية” خلال الخمسة عشر عاما المقبلة. وتوقع التقرير، أن تحل محل تنظيم “القاعدة” مجموعات لامركزية إسلامية، تستوحى العنف والإرهاب الدولي، وتكون أكثر انتشارا من الناحية الجغرافية، تنطلق من الشرق الأوسط وتمتد إلى دول إسلامية أخرى.
وتدعيماً للفزاعة الأمريكية من سيناريو الخلافة، تم استغلال إعلان منسوب إلى تنظيم “القاعدة”، على شبكة الانترنت، بقيام “الخلافة”، فى أكتوبر 2006، حيث اتجه الرئيس السابق بوش إلى تعبئة الرأى العام الغربى ضد “هذه الخلافة التى تشكّل إمبراطورية إسلامية شموليّة تغطّى أراضى الإسلام الراهنة والماضية، لتمتد من أوروبا إلى شمال إفريقيا إلى الشرق الأوسط وإلى جنوب شرق آسيا”. كما أعلن نائبه “ديك تشيني” أن “إسرائيل والولايات المتحدة تقودان حرباً واحدة لمنع تشكل إمبراطورية شمولية من أسبانيا تمتد على طول شمال أفريقيا حتى الشرق الأوسط وجنوب آسيا”
2ـ الربط بين الإسلام والفاشية:
فقد علق الرئيس بوش، فى أغسطس 2006، على إحباط مخطط إرهابي يستهدف الولايات المتحدة في بريطانيا بالقول إن بلاده تخوض حربا “مع الفاشيين المسلمين”. كما أعلن وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد أن الولايات المتحدة “تواجه تحديات في مواجهة تصاعد نوع جديد من الفاشية”.
ودعماً لتصريحات بوش، ورامسفيلد، أعلن “مركز الأخلاق والسياسات العامة”، عن إطلاق برنامج تحت اسم “أعداء أمريكا” لدراسة الأخطار التى يمثلها “الإسلام الراديكالي” تجاه واشنطن، وأعلن المركز، أن البرنامج يأتى لدراسة “التهديدات تجاه الولايات المتحدة والغرب من مجموعة صاعدة من قوى معادية للغرب تمتد بتأثيرها على نحو متزايد إلى مستقبلنا وانتهاك الحرية الدينية فى أنحاء العالم”.
وقد أسس البرنامج، السيناتور الجمهورى “ريك سانتورم”، وقال بمناسبة إطلاق البرنامج: إن “الفاشية الإسلامية، تمثل التهديد الرئيسى للولايات المتحدة، إنها شكل راديكالى منحرف من الإسلام” يسعى إلى الهيمنة على العالم. وقال: إن المسلمين الآخرين يجب أن يشاركوا الأمريكيين هذه المخاوف لأن “الفاشية الإسلامية تنتج قتلا منظما للأبرياء، ومن بينهم أبرياء مسلمون كثيرون”
وقد تبنى الحملة ديفيد هورويتز, والذى اعتبر أن أى معارضة للسياسة التى تتبعها الإدارة الحالية هى تعبير عن الفاشية, مدعياً أن الفاشية الإسلامية، لا تهدد مصالح الولايات المتحدة فى الخارج فحسب, وإنما هى تمثل غزوا واختراقا لحصون الولايات المتحدة الداخلية ذاتها. ويجسد الوجود الإسلامى فى الولايات المتحدة والمنظمات المختلفة التى تمثل المسلمين رأس الحربة فى ذلك الغزو”.
وجاءت سياسة الربط بين الإسلام والفاشية، لتعكس توافقاً بين الشقين الرسمي وغير الرسمي للسياسة الأمريكية، فقد استمدت الإدارة الأمريكية، تصوراتها عن “الفاشية الإسلامية”، من مقولات وتحليلات عدد المحللين والمراكز البحثية الذين يمثلون الذراع الفكرية للإدارة الأمريكية، حيث تعددت الإسهامات الفكرية التى روجت لهذا المفهوم، والتى تعبر عن تيار ممتد من الأدبيات التى تتخذ موقفاً صراعياً استئصالياً ضد الإسلام، ونجحت فى أن تشكل أحد المصادر الرئيسة لصياغة توجهات السياسة الأمريكية نحو الإسلام.
3ـ الاعتداءات المتكرة على القرآن الكريم:
فقد أقرت وزارة الدفاع الأمريكية بوقوع عدة حوادث لتدنيس المصحف الشريف، قام بها جنود أمريكيون فى العراق، وفى معسكر جوانتانامو. وتدعيما لحملة الهجوم على القرآن الكريم، قامت جماعة يمينية يهودية بإعداد كتاب يصطنع رسم القرآن الكريم، ويحاول أن يترسم خطا أساليبه، حيث يشتمل على المقدمة، والبسملة (أ) وسبعة وسبعين موضوعا سماها “سورا”، تبدأ بالفاتحة، وتنتهى بالشهيد، ثم الخاتمة (ي) والتى ختمها بكلمة آمين. ثم المقارنة بينه وبين القرآن الكريم حتى تثبت بشرية القرآن، وأنه ليس كتابا سماويا وفق زعمهم. ويتم الترويج بأن هذا “الفرقان” وحى جاء مصدقا لما فى الإنجيل
4ـ دعم المرتدين عن الدين الإسلامي:
برز هذا الدعم، فى الموقف الأمريكى من محاكمة مواطن أفغانى ارتد عن الإسلام، فقد أعرب الرئيس الأمريكى جورج بوش، عن قلقه العميق إزاء محاكمة أفغانى لارتداده عن الإسلام واعتناقه المسيحية، وقال بوش “إنه أمر مقلق للغاية أن دولة ساعدنا فى تحريرها ستعاقب شخصا لأنه اختار دينا ما على آخر”. وأضاف “لنا تأثير على أفغانستان وسوف نستخدمه لنذكرهم بأن هناك قيما عالمية”
ولم تكن قضية تحول شخص عن ديانته، لتحتل مثل هذه المكانة وتلك الأهمية، إلا إذا كان الهدف من إثارتها والاهتمام بها أكبر، من الشخص نفسه، بل ومن الدولة التى ينتمي إليها، هدف يتحرك من أجله قادة العديد من الدول الغربية، ويتحرك من أجله رأس الكنيسة الكاثوليكية فى العالم، فى وقت يتحول فيه الآلاف يومياً عن دياناتهم ومعتقداتهم، دون أن يشعر بهم أحد، أو تثار حولهم كل هذه الهالة، ولكنها المخططات الأمريكية، الرامية إلى فرض نموذجها القيمي على العالم، خلال القرن الحادي والعشرين.
5ـ دور التيارات الفكرية والمراكز البحثية:
شكلت التيارات الفكرية والمراكز البحثية الأمريكية وكذلك وسائل الإعلام، وفي بعض الأحيان ممارسات بعض القوي والتنظيمات المجتمعية، أداة مهمة، بل ومحورية، فى صنع وتوجيه السياسة الأمريكية، خلال السنوات العشر الأخيرة، فكانت بمثابة الذراع التأصيلي للإدارة الأمريكية، الذي يصوغ التوجهات، ويرسم السياسات ويقدم المقترحات، وعلى الإدارة الاختيار بينها، بما يتفق وأهداف سياستها الخارجية، وخصائصها المرحلية، فالمراكز البحثية وما يصدر عنها من دراسات وأطروحات وتحليلات تُشكل المُكَون غير الرسمي للسياسة الأمريكية، ومن خلالها صيغت توجهاتها نحو الإسلام وقضايا العالم الإسلامي.
وقد جاءت هذه الأطروحات، متفقة مع البعدين الديني والإستراتيجي للسياسة الأمريكية، ومصاحبة للحرب الأمريكية على الإرهاب، وتمثل الهدف الرئيس لها فى “الكفاح من أجل الحداثة والعلمانية والتعددية والديمقراطية والتنمية الاقتصادية الحقيقية”. وتم التعبير عن الإسلام الحداثى فى إطار الرؤى الأمريكية، بصياغات مختلفة، منها: “الإسلام الليبرالي”، و”العلمانية المؤمنة”، و”الإسلام العلماني”، و”الإسلام المعتدل”. لحل إشكالية “الإسلامفوبيا” ومواجهة “الفاشية الإسلامية”، و”الإرهاب الإسلامي”، وتحقيق الإصلاح السياسي، وفق معادلة جديدة تخرج عن دعم الأنظمة الاستبدادية مقابل “الاستقرار” وتأمين المصالح؛ لأن هذه الأنظمة لم تعد قادرة على منح هذا “الاستقرار”. ولتحقيق “مشروعية” ومصداقية لدى المخاطب العربى والمسلم
وتشير الأطروحات الفكرية الأمريكية إلى حدوث تحول جذرى على المستوى المفاهيمى والإدراكى والمعرفي، حول الإسلام، ووجود تركيز على تغيير القوالب الفكرية التى تنطلق من خلالها فى توصيف علاقة الولايات المتحدة بالمسلمين وبما يجب على الإدارة الأمريكية فعله حتى تكسب صراعها الجديد، فهو صراع مع الإسلام، وليس مع الإسلاميين الراديكاليين فقط، وهذا الصراع هو بالأساس “صراع أفكار” وأن التحدى الرئيسى الذى يواجه الغرب يكمن فيما إذا كان العالم الإسلامى سوف يقف فى مواجهة المد الجهادى الأصولي، أم أنه سيقع ضحية للعنف وعدم التسامح؟. الأمر الذى يتطلب “ضبط الإسلام”، وليس “الإسلاميين”، ليكون متمشيًا مع “الواقع المعاصر”.
مع الدعوة للدخول فى البنية التحتية للدين الإسلامي بهدف تكرار ما فعله الغرب مع التجربة الشيوعية. فالطريق الصحيح لمحاربة الإسلام، هو بناء أرضية من المسلمين أنفسهم من أعداء التيار الإسلامي، مثلما حدث فى أوروبا الشرقية وروسيا حينما تم بناء منظمات معادية للشيوعية من أبناء الدول الشيوعية نفسها. والتركيز فى هذا الإطار على “أطراف” العالم الإسلامى وتجاهل “المركز”، المنطقة العربية، بغرض دعم “الاعتدال فى أطراف العالم الإسلامي” خصوصًا فى آسيا وأوروبا. حتى تخرج الأفكار الإسلامية المؤثرة على مجمل العالم الإسلامى من هذه الأطراف، وليس من المركز، الذى أصبح ينتشر فيه “التطرف”، وبحيث تصبح هذه الأطراف هى المصدرة للفكر الإسلامى المعتدل الجديد، ولا تخرج الأفكار من المركز([16]).
أما عن تصور هذه الإطروحات، للاعتدال الإسلامي، فترى أنه يتمثل فى ذلك التيار الذي: يرى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية. ويؤمن بحرية المرأة فى اختيار “الرفيق”، وليس الزوج. ويؤمن بحق الأقليات الدينية فى تولى المناصب العليا فى الدول ذات الغالبية المسلمة. ويدعم التيارات الليبرالية، والقبول بالديمقراطية، والقبول بالمصادر غير المتعصبة فى تشريع القوانين، ونبذ الإرهاب والعنف غير المشروع ([17]).
وبجانب تيارات الاعتدال، تأتي تيارات التجديد، والتى تضم دعاة الإسلام المدنى (منظمات المجتمع المدنى التى تدافع عن المساواة للمرأة وحقوق الإنسان والمسؤولية الاجتماعية، وحماية البيئة، والقضايا الاجتماعية المماثلة)، ودعاة الإٍسلام والديمقراطية (الأحزاب والحركات التى لا ترى تعارضا بين القيم والتعاليم الإسلامية والمبادئ الديمقراطية الحديثة) ودعاة الإصلاح من داخل الإسلام (الشخصيات الدينية القيادية، وعلماء الدين، والمؤسسات الأكاديمية التى تدعو إلى إعادة تفسير التعاليم الإسلامية، وإلى قراءة تاريخية للإسلام والقرآن، وتحديث المعرفة الإسلامية)، وحركة الدعوة إلى إسلام التحديث الثقافى (الجماعات والمنظمات القائمة خارج العالم الإسلامى، والتى تحاول خلق هوية إسلامية غربية”، ولا ترى تعارضاً بين أن يكون المرء مسلماً ومواطناً فى ديمقراطية غربية) ([18]).
وفى إطار هذه الأطروحات يمكن القول أن السياسة الأمريكية، بشقيها الرسمي وغير الرسمي، لم تسع فقط إلى فرض تصورها للإسلام على المجتمعات الإسلامية، ولكنها سعت لتحديث المبادئ والتعاليم الدينية والمؤسسات والممارسات الدينية والفقه الدينى. من خلال توسيع الحدود المفاهيمية وأسس الشريعة فيما وراء القرآن والسنة. لخلق نموذج قيمي معرفى، يتفق وما تهدف إلى بنائه وترسيخه في العالم الإسلامي، فبناء نموذج إسلامي، وفق مرجعية جديدة، تصوغها وتحدد أطرها الولايات المتحدة، من شأنه أن يقود تلقائياً، وفق التصور الأمريكى، إلى القضاء على المرجعية الإسلامية القائمة، وتفتيت النموذج الحضارى الذى تأسس استناداً إليها، والتى ترى فيه أكبر تحد يواجه نموذجها القيمي وبناءها الإمبراطورى الذي تسعى إلى تشكيله.
وحتى يتحقق ذلك، فلابد من إفراغ الإسلام من مضمونه، ونزع الخصوصية التي يتمتع بها، وإعادة تشكيل الهوية التى قامت على أساسه، من خلال منتديات إقليمية يجتمع فيها مفكرو التحديث الإسلامى بانتظام للبت فى الاختلافات السياسية والفلسفية والعقائدية، وتقرير قواسم مشتركة وأهداف مشتركة، تستمد من أصول ومرجعيات دينية وفلسفية وعقائدية مختلفة، من بينها الإسلام، حتى لا يكون هو المرجعية الوحيدة للنماذج الحضارية في الدول الإسلامية.
وإذا كان هذا عن التوجهات الأمريكية، تجاه الإسلام، وما أفرزته من مطالب وضغوط على الدول العربية والإسلامية، ورغم أن الولايات المتحدة اختارت أفغانستان والعراق، كمختبر لفرض وصياغة نموذجها الحضاري والقيمي في العالم الإسلامي، فإن هاتان الدولتان، كانت أشبه ببالون اختبار، استعداداً لممارسة ضغط أكبر، على الدول التى تشكل المحاور في العالم الإسلامي، إلا أن الإستراتيجية الأمريكية شهدت نوعاً من التغيير أو التعديل على خلفية الثورات والاحتجاجات الشعبية التي شهدتها الدول العربية والإسلامية وأدت لإسقاط عدد من النظم السياسية الحليفة، بل التابعة، للولايات المتحدة، وصعدت هذه الاحتجاجات بقوى إسلامية إلى سدة الحكم في هذه الدول.
ومع محدودية التأثير الأمريكي في إدارة وتوجيه هذه الثورات، وخاصة في مصر وتونس، من ناحية، وتبنيها مبدأ القيادة من الخلف (كما حدث في ليبيا واليمن والبحرين، وكما يحدث في سوريا)، من ناحية ثانية، وأمام تراجع مكانة ونفوذ الولايات المتحدة في دول الثورات العربية، من ناحية ثالثة، كان لا بد من تبني كل ما من شأنه النيل من أمن واستقرار النظم الوليدة وتفتيت جهودها واستنزاف قدراتها في قضايا فرعية وفي صراعات وحروب جانبية، ترتبط بأهم مكون من مكونات ثقافة وحضارة هذه الدول، وهو معتقدها الديني ورموزها الدينية، وكان التجسيد الأكبر لذلك “الفيلم المسيئ للرسول الكريم “محمد” صلي الله عليه وسلم، والذي تم بثه في الولايات المتحدة، ثم تلاه نشر عدد من الرسوم المسيئة للنبي الأعظم في إحدي المجلات الفرنسية، وإعلان عدد من الوسائل الإعلامية عن دعمها للفيلم وللرسوم والعمل على نشرهما على أوسع نطاق.
الأمر الذي فاقم من موجات الغضب الشعبي في الدول الإسلامية تجاه الدول الغربية بصفة عامة، والولايات المتحدة بصفة خاصة، ومهاجمة مصالحها وسفاراتها في عدد من الدول، وهو ما طرح العديد من التساؤلات عن توقيت بث هذا الفيلم؟ ومن هي الأطراف التي تقف خلف بثه؟ وما هي الأهداف الرئيسة التي تسعي إليها هذه الأطراف؟ وهل الحدث يأتي كحلقة من سلسلة الحلقات التي لا تنتهي من الإساءات المتكررة للإسلام، والتي يتم الدفاع عنها بالقول أنها أحداث فردية في إطار حرية الإبداع الفكري؟ أم أن هذا الحدث هو جزء من منظومة فكرية تنطلق منها توجهات السياسة الأمريكية نحو الإسلام، فكراً وحضارةً؟
هنا تبرز عدة تفسيرات:
التفسير الأول: التفسير التآمري: ويقوم على أن هناك مؤامرة تقودها الولايات المتحدة ضد دول الثورات العربية، ونظمها السياسية الوليدة لنشر الفتن والانقسامات داخلها، واستمرار حالة عدم الاستقرار داخلها لتظل بحاجة للوجود والدعم الأمريكي، وهنا تفرض الإدارة الأمريكية أجندتها وشروطها على هذه النظم، من خلال استغلال ملفاتها الساخنة، كملف الأقباط في مصر وملف القبائل في ليبيا.
إلا أن هذا التفسير، وإن كان له أنصاره، فإنه لا يجب التعويل والبناء عليه كثيراً، لأن مفهوم “المؤامرة” يفقد صفته وخصوصيته بمجرد الكشف عنه. وبالتالي لا حديث عن مؤامرة ونحن نعلم بما يتم تدبيره وتخطيطه، أما إذا كنا نعلم بالمؤامرة وننساق لها فنحن شركاء فيها.
التفسير الثاني: التفسير الموقفي: ويربط بين بث الفيلم في هذا التوقيت بالانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في نوفمبر القادم، والتي دخلت مرحلتها النهائية، وأن بث الفيلم ما هو إلا محاولة من جانب المرشح الجمهوري “ميت رومني” وأنصاره للنيل من منافسه الديمقراطي “باراك أوباما” وإظهار عجزه عن حماية المصالح الأمريكية في الخارج في حال عدم قدرته على تبني السياسات التي يتوجب تبنيها، وفق رؤية الجمهوريين، أو تبنيه سياسات متشددة ضد الدول التي شهدت اعتداءات على المصالح الأمريكية، وهنا تكون إسرائيل في الخلفية تنتظر المكاسب الإستراتيجية، فخسائر أعدائها مكاسب لها، والعدو الأخطر هنا بالنسبة لها هو مصر ونظامها الجديد.
وهذا التفسير أيضاً، رغم وجاهته ومنطقيته، فإنه لا يجب الاعتماد عليه منفرداً، لأننا عانينا عشرات السنوات من مثل هذه المقولات والتي تقوم على أن ما يصدر من تصريحات عن المرشحين الأمريكيين وما يتبنونه من ممارسات متشددة تجاه الدول العربية والإسلامية هو فقط للاستهلاك الانتخابي، وهذا غير صحيح، لأن هؤلاء يرتبط بقاؤهم في السلطة بمدى تنفيذهم لبرامجهم الانتخابية ومصداقيتهم أمام ناخبيهم، وليس لمجرد الاستهلاك كما هو السائد في العديد من نظمنا السياسية.
التفسير الثالث: التفسير الإستراتيجي: ويقوم على أن نشر الأفلام، أو الرسوم الكاريكاتورية أو تدنيس المصحف الشريف أو محاولات تمزيقه، والتي يقوم بها أفراد أو جماعات بين الحين والآخر، ما هى إلا مكون أصيل من مكونات الثقافة السياسية الأمريكية تجاه الدين الإسلامي، وأحد ركائز منطلقاتها الفكرية وتوجهاتها الإستراتيجية تجاه الدين الإسلامي، ويتم توظيف هذه الممارسات “الفردية، أو الجماعية” بين الحين والآخر لترسيخ حالات العداء والكراهية ضد الإسلام والمسلمين، واستنزاف قدراتهم المادية والبشرية في صراعات وجودية، كخطوة، ضمن خطوات للقضاء علي الدين وأنصاره بشكل كامل، في إطار رؤية إستراتيجية تمت صياغتها في بداية التسعينيات من القرن العشرين تحت مسمي “صراع أو صدام الحضارات”، كان فيها التحدي الحضاري الإسلامي أو الخط الدامي الذي تصوره دعاة وبناة هذه النظرية في مواجهة الحضارة الغربية بقاطرتها الأمريكية.
ومع التأكيد على أهمية ومحورية مثل هذا التفسير، للإساءات المتكررة للدين الإسلامي وكتابه المقدس ورسوله الكريم، فإن الرؤية الكلية للتعاطي مع مثل هذه الإساءات ينبغي أن تراعي كل التفسيرات السابقة، والتعامل مع كل تفسير على أنه جزء من كل، ولكن تبقي الغاية واضحة والهدف محدداً. ويبقي التحدى الأكبر هو مدى قدرتنا، كنظم وشعوب وجماعات وأفراد على تبديد هذه الغاية والحيلولة دون تحقيق هذا الهدف |