النتائج الفاجعة لسياسات الاستدانة
الثلاثاء, 21 يناير 2014 21:28
إذا كان ثمة عوامل كابحة لبرامج التنمية في بلدان الجنوب (العالم الثالث)، ومنها البلدان العربية، فمنها – على تعدُّدها- عامل الدَّيْن الخارجي جنبًا إلى جنب مع عوامل أخرى نظير مثل فقر الموارد، وضعف القوى البشرية، والفساد الإداري، وسوء توزيع الثروة وما شَابَهَ ذلك.
إذْ إن سياسات الاستدانة، التي نَهَجَها معظمُ دول العالم – من منظومة الجنوب- لم تنجح في امتصاص مشاكل سوء النموّ الاقتصادي، ولا ضَخَّتِ الحياةَ في معدَّلات التنمية، ولا وفَّرتِ المواردَ المالية اللازمة لإطلاق برامج “الإقلاع الاقتصادي”، ولا قلَّصَتِ الفجوةَ بين الأغنياء والفقراء، ولا دَعمتْ قدرةَ الدولة على التدخل في الحقل الاقتصادي وعلى تزويد خطط التنمية المركزية بالشروط والبُنى الاستثمارية الضرورية، ولا ساهمت في دعم مشروعات البنية التحتية الارتكازية: الخدْماتية والاقتصادية… الخ، بل – على العكس من ذلك كله- رفعت معدّل الحاجة، وضغطت على برامج التنمية والاستثمار في بُنَى الاقتصاد التحتية، وفَرَضَتْ أعباء ثقيلة على الموازنات العامة للدولة لاستيفاء شروط الدَّيْن وسداده، وأجبرتِ الدولة على وقف الاستثمار في برامج التنمية والانصراف إلى تحقيق الحدّ الأدنى من مقاومة الاختلالات المالية والنزيف المتزايد في العُمْلة. والأنكى من ذلك، أنها عَصَفَتْ باستقلال القرار الاقتصادي عَصْفًا، وأرغَمَتْهُ على الارتهان طويل المدى للقوى الدائنة: دولاً وبنوكًا!
لقد تحوّلت أحلام الانتصار على الفاقة والخَصَاص بالاقتراض، وبتحويل القروض إلى بَطَّاريات للتنمية، إلى كوابيسَ مُرعبةٍ تهدّد الكيانين الاقتصادي والسياسيّ للدول المستدينة بالانهيار أو بالزوال.
تبدَّى أن القروض تلك ما كانت نعمةً على الاقتصاد كما تخيَّل ذلك مَن تَخَيَّل، بل كانت نقمةً وأيَّ نقمة؛ فَبَدَلَا من أن ترفَع الغُمَّة زادت ضَرْبِ الخناق على الأعناق، وفَتَحَتْ بابَ أسوأ المشاهد والمصائر على الدولة واقتصادها واستقلالها وسيادتها!
إذ أُجْبِرَتِ الدولُ المستدينةُ على الإذعان لسياسات دائنيها وإملاءاتهم حتى تظْفَر بالحق في جدولةٍ لديونها أكثر “مراعاةٍ” لإمكاناتها في السداد.
والأنكى من ذلك أن بعض تلك الدول المستدينة ارتضى ذلك الإذعان لشروط دائنيه طمعًا في استحصالِ قروضٍ جديدة منه، أي طَمَعًا في تمديد محنته التي تشبه محنةَ متعاطي المخدرات المُدْمِن الذي يُصبح أسيرَ ما تذوَّقه من تاجر المخدرات عن “طيب خاطر” كي يصير له مُسْتَتْبعًا لَحُوقًا!
وبمقتضى ذلك، انْغَمَسَ أكثر الدول المستدينة في سياسة الاستدانة المتجدّدة – المُعَمَّدة بإذعان ذليلٍ لشروط الدائن- عَمَلاً بقاعدة المُبْتَلين: “ودَاوِني بالتي كانت هي الداء”! تَحَوَّل المستدين – في هذه الدورة المُغْلقة- إلى ما يُشْبِه اللاّعِقِ دَمَهُ على حدِّ سِكِّينٍ بالغِ المَضَاء!
انفضحت – مع محنة الدول المستدينة- أُزْعُومةُ الدول والبنوك الدائنة في الغرب، التي جرَّبَتْ طويلاً شائعة الاعتقاد بأن سياساتها الاقتراضية مصمَّمة للمساهمة في تقديم أجوبة عن معضلات التنمية في الدول الفقيرة، وأنها تنتمي إلى استراتيجية المشاركة في تحمُّل بعض أعباء تحقيق اندماج تلك الدول في دورة الاقتصاد العالمي.
ثم تأكَّد من تَواُتُر الأحداث والوقائع أن سياسة الاقتراض تشكل واحدةً من أنجع الأدوات الوظيفية الفتاكة لتحقيق الهيمنة – هيمنة الميتروبولات على الأطراف- ولإعادة إنتاج العلاقة الامبريالية (الاحتكارية الهيمنوية) بوصفها الشكل الرئيس للنظام الرأسمالي في حقبة ما بعد الاستعمار المباشر!
ولعلّ السياسات الإملائية لكل من “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي”، المقدَّمة في صورة “توصيات” للدول المستدينة، أفْقَعُ مظاهر تلك النزعة الامبريالية العميقة إلى الهيمنة الميتروبولية على أطراف العالم وهوامشه (في الجنوب).
حين يقرأ المرء “أدبيات” هذه المؤسسات الدولية الأخطبوطية الكبرى، من جنس “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي” و”نادي باريس” وغيرها، و”الوصفات” الاقتصادية- السياسية التي تقدّمها للدول المستدينة تحت عنوان – وفي إطار برنامج- “التقويم الهيكلي” (أو التصحيح البنيوي) P.A.S، سَيَلْحَظ أنها لا تقترح على تلك الدول أيَّ مَخْرَج جديّ من محنتها الاقتصادية والمالية، بل لا تقترح عليها غير الانتحار الاقتصادي- الاجتماعي!
إذْ ليس تفصيلاً أن تنصرف تلك “التوصيات” إلى حَمْلِ الدول الفقيرة – المُثْقَلة بأعباء الديون- على إعادة هيكلة اقتصادها على مقتضى خياراتٍ وسياساتٍ غير مُنْتجة، من قبيل وقف الاستثمار وتحرير الأسعار – برفع الدعم الحكومي عن المواد الأساسية للاستهلاك الشعبي- وتفويت ممتلكات الدولة أو القطاع العام لقوى الرأسمال الخاص (فيما يُدْعَى سياسات الخَوْصَصَة أو الخصخصة)، ووفق التوظيف في القطاع العام، و”تحرير” التجارة، وإطلاق حرية السوق… الخ.
ففي ذلك ما يُنْبِئ بنوع تلك “التوصيات” ومراميها: دفْعُ تلك الدول دفعًا نحو إفلاسٍ اقتصادي تزيد به ارتهانًا لدائنيها، أو إلى انتماءٍ إلى منظومة الرأسمالية إنْ كانت في جملةِ منظومةٍ أخرى نقيض: كما حصل بالنسبة إلى دول أوروبا الشرقية وروسيا (“الاشتراكية” في ما مضى).
وإذا كان من نتائج الإذعان لتلك التوصيات – والعمل بمقتضاها- تزايُد ظواهر الفقر والتفاوت في مستوى العيش داخل الدول حديثة العهد بالعلاقات الرأسمالية (الدول “الاشتراكية” سابقا)، فإن من نتائجها – أيضًا- إحداث اختلالات داخل الحقل الاجتماعي في البلدان التابعة تقليديًا للرأسمالية الميتروبولية (بلدان “العالم الثالث”)، ناجمة من سياسة الانصراف إلى تحقيق التوازنات المالية ولو على حسبان التوازنات الاجتماعية.
وهي اختلالات ترافقت مع تزايد معدلات الفقر وهبوط مستوى التنمية ونسب النموّ، وتعاظم الفجوة بين الطبقات، والإفلاس الاقتصادي الكامل!
سياسةُ القروض، وما يرافقها من شروط مُجْحِفَة، ليست جديدة على مشهد العلاقات الدولية؛ ونتائجُها الكارثية على صعيد استقلالية القرار الاقتصادي والوطني ليست من مصادفات حقبتنا التاريخية الراهنة.
إنها تعود إلى ما قبل ميلاد العولمة بمائة عامٍ تقريبا، إذ كانت حينَها – مثلما هي اليوم في الجوهر مع اختلافٍ في التفاصيل- أداةً من الأدوات الأفعل للإخضاع.
ألم يكن صندوق الدَّيْن العثماني – مثلاً- المدخل الآمِن لتفكيك الامبراطورية العثمانية؟ لكنها اليوم أخطر بكثير من ذي قبل.
إنها تستطيع ترويض ثاني امبراطورية في العالم إذا كانت قد نجحت في ترويض خامس امبراطورية في العالم قبل قرن! هَاكُم مثال روسيا اليوم: الدولة العظمى الثانية التي كانت في عهد بوريس يلتسين، تتسوَّل كي يتماسك الحدُّ الأدنى من توازُنِهَا المتهالك! ولا تكاد تتماسك حتى تتهالك أكثر!
عن التجديد العربي