ازدواجية الخطاب السياسي: أية دلالة؟عبد الرحمن العمراني
ضمن أحاديثهم في تلك الدوائر الضيقة، تقف على لغة مباشرة ، لا مكان فيها للالتواء أو المخاتلة أو المحسنات اللفظية ، لغة لا يتراءى من ثناياها حاضرنا ومعيشنا اليومي أبدا في صورة مشرقة، ولا يمكن أن تنتظر على ضوء ما تحمله تلك اللغة من تعبيرات وإشارات انقشاعا للغمام في مستقبل قريب منظور ،لكن ومن جهة ثانية، فإن نفس السياسيين يتحولون ، بقدرة قادر، الى مدافعين أقوياء ومنافحين أشداء على نمط تطورنا السياسي العام، حريصين على إبراز ثقة زائدة في قدرتنا الأكيدة على فتح الأبواب الواسعة والآفاق الرحبة والفسيحة أمام الانجازات الديمقراطية الشاملة، وذلك بمجرد أن يكونوا في وضعية المخاطب أو الخطيب خلال مناسبات عامة، رسمية أو حزبية أو إعلامية . هكذا مثلا ففي الحديث الخاص والدردشة التلقائية ضمن الدائرة الضيقة، تسمع شكوى بدون حدود مما قد يبدو لك ، من ثنايا الخطاب، وكأنه تعطيل مقصود للدستور، بفعل فاعل، يأخذ شكل تأخير مبرمج للقوانين التنظيمية التي يتوقف على وجودها تنزيل المضامين الديمقراطية الحاسمة لهذا النص الحقوقي المتقدم ، في وقت تشرف فيه الولاية التشريعية على الانتصاف، لكن في المقابل ، وفي الساحة العامة، وضمن مشمولات الخطاب المسموع مجلجلا والموجه للعموم ، والمقدم معلبا بعناية واحترافية، فإنك لن تجد من طرف نفس الفاعلين السياسيين غير الإشادة بسبقنا المبهر في مجال دسترة أرقى المقتضيات والقواعد والأعراف الديمقراطية وأكثرها مساوقة للنماذج الناجزة الناجحة على المستوى العالمي. وهكذا أيضاً وفي مجال التشخيص والتقييم لواقع وحال سير مؤسساتنا السياسية المنتخبة، وحال ودور النخب البرلمانية، ومستوى النقاش والتداول في القضايا العامة ، فإنك لا محالة ستصادف في الممارسة الخطابية للفاعلين السياسيين نفس الازدواجية عند التشخيص والتوصيف : في الدوائر الخاصة الضيقة ستقف على شكاوى من هول فقر النقاش السياسي وضعف أداء النخب ومحدودية الهوامش المتاحة للفعل والتحرك ، ستسمع في حق الممارسة السياسية والنيابية والحزبية من النعوت والأوصاف ما قد يقنعك بأننا نتحرك بصفة حثيثة صوب الخلف، أو أننا في سباق نحو الأسفل ، وبأن الخطوة التي نخطوها الى الامام- أو التي تبدو لنا كذلك - تتلوها مباشرة وفي المتوسط العام خطوتان أكيدتان الى الوراء. لكن نفس الفاعلين، وتحليلا لنفس الأوضاع والظرفيات قد يفاجئونك بالتصريح بما يفيد بأننا ماضون في الطريق الصحيح، نراكم المكتسبات، نصحح أخطاء الماضي ونتطور مع تطور القاعدة الاجتماعية لنخبنا السياسية، وبأن الاستثناء السياسي المغربي، تأسيسا على ذلك ، هو بألف خير ولو كره الكارهون . في الحالة الاولى ، حيث المتحدث المحلل موجود في الفضاء العام، ستسمع كلاما حول أوضاعنا العامة قد يذكرك بمقطع من أغنية قديمة للست أم كلثوم تقول فيها « وقالي كلام القلب يرقص لو» ، ستسمع محدثك وهو يخاطبك بحماسة زائدة عن فعالية النخب الجديدة وديناميتها ومهاراتها، وأثر كل ذلك على تطوير الممارسة السياسية والأداء الديمقراطي ومستوى التنافس القائم بهدف تقديم الحلول الجيدة ، ستسمع كلاما براقا عن الحكامة الجيدة وأخواتها وتوابع أخواتها في مجالات التدبير والمحاسبة أو الجاهزية للمحاسبة، والحضور القوي للمجتمع المدني وغيرها من التقليعات التعبيرية الحديثة والحداثية ، وإن وقع وحاججت أو تقدمت بملاحظة تخدش صورة هذا الانسجام فإن مخاطبك سيتهمك على الفور بأنك نوستالجي حتى النخاع، ترى الاشياء كلها أو تحكم عليها بمقاييس الماضي، مصبغا على تلك المقاييس صفة نموذجية مثلى لم تكن لها أصلا حتى في زمانها. أما إذا كنت أمام نفس هذا المخاطب ضمن مجالات النقاش الضيقة والمحدودة، فإنك ستسمع في توصيف الوضعية والظرفية ما قد يقنعك بأننا أكلنا خبزنا الأبيض (بالتعبير الفرنسي) في مجال الممارسة الديمقراطية منذ زمان ،وأننا نعيش فترة ارتداد قد نطلق عليها ما شئنا من النعوت ولكنها واقع متأزم لا يرتفع . ستسمع مثلا كلاما آخر، يقال بنبرة الحنين ، عن صراعات واحتكاكات زمان، حينما كان المتصارعون حتى في أقصى فترات المواجهة يعرفون ويقدرون على الاقل قيمة بعضهم البعض، ويتصرفون على هذا الأساس. كيف يمكن أن نفسر هذه الازدواجية التي ألقت بثقلها على الحقل السياسي على نطاق معمم، مهددة بنسف قواعد المنطق السياسي الذي يفرض على السياسيين في المجتمعات الديمقراطية أن يقولوا في العلن ، حينما يتعلق الأمر بقناعات تهم إدارة الشأن العام، نفس ما يعلنون في الدوائر الضيقة من المجالس ،حتى وإن اختلفت أساليب التقديم والتبليغ؟ هل يفيد في تفسير الظاهرة واستجلاء دلالاتها، استعمال مفاهيم من نوع النفاق ؟ لا أعتقد، لأن استعمال مفاهيم تنتمي للمجال الدلالي الأخلاقي من هذا القبيل ، من شأنه أن يغلق باب التفسير والتقصي بقليل مجهود أو بمصادرة على المطلوب أكثر مما قد يفتحه أو يمهد له ، فهو ليس أكثر من الاعلان بأن السماء فوقنا. أيرتبط الامر بأزمة حقيقية في إنتاج أفكار جديدة، استشرافية ومعبئة ، في زمن سياسي تداخلت فيه الأصوات والألوان ، وتجاورت فيه ? أو تساكنت- الأرضيات والمرجعيات ، بالعجز أو بالاختيار المقصود؟ قد يكون ، وإن كان هذا التفسير يستدعي تساؤلا أوليا حول الاسباب الى أدت الى هذا العجز في إنتاج الأفكار الجديدة في زمن يفترض فيه أن النخب السياسية -بانفتاح لم يكن موجودا في العقود الماضية – قد توسعت مجالات عملها وأساليب تحركها الميداني بما يعطيها مرونة أكبر مما توفر لغيرها من النخب السابقة في مجال التقاط الإشارات التي تحملها التطورات المجتمعية أو في بلورة المطامح والانتظارات الجماهيرية الضاغطة. هل تسعفنا مقولات العلوم السياسية ومفاهيم السوسيولوجيا السياسية في تفسير هذه الممارسة الخطابية المخترقة بازدواجية أضحت في ما يظهر إحدى خصائص طبقتنا السياسية منذ مدة غير وجيزة، والتي تجعل من إعلان الرأي المنسجم، والموقف المنسجم عند تناول القضايا العامة ، في الجهر كما في العلن ، سلوكا أشبه ما يكون بقطعة النقد النادرة، الصالحة للحفظ في المتاحف أكثر من صلاحيتها للتداول اليومي في الاسواق؟ من الممكن ، لكن شريطة أن نكون مستعدين للتنقل المضني بين تلك المقولات والمفاهيم ضمن الرافدين المعرفيين المذكورين بحثا عن توليفة منتجة قد تقربنا من الفهم والتأويل لهذا الصنف من الازدواجية، لأن المؤكد أن مصنفات ومؤلفات هذين التخصصين منذ الفلورانسي ماكيافيل لن تسعفنا في العثور على مقولات واحدة جاهزة يفيد استعمالها في فهم الظاهرة وأبعادها. لنجازف إذن في غياب وجود مفاهيم جاهزة تفيد وتنفع في التفسير ، بتقديم عناصر فرضية مؤقتة يمكن أن تلقي أضواء على هذه الازدواجية في خطاب الفاعل السياسي المغربي اليوم ، ازدواجية تجعله يعلن ما لا يضمر، ويقول الشيء ونقيضه حسب ما إذا كان يدلي بالكلام في الأكورا ، في الفضاء العام ، أو كان بين جدران أربعة بين أصدقاء أو معارف محدودي العدد. والفرضية المؤقتة هي كما يلي : إن هذه الازدواجية هي دليل على نوع من الارتباك يطبع تفكير أو مقاربة الطبقة السياسية اليوم في قراءة الواقع الراهن ، وهذا الارتباك يخلق ، لدى هذه الطبقة، نوعا من فقدان الثقة في حواسها السياسية ، وفقدان الثقة هذا يولد لديها ويترافق مع نوع من الخوف المزدوج : فهي تخاف إن هي أبرزت جوانب الإخفاق أو ركزت عليها عند توصيف الواقع السياسي، أن تكشف في نفس الآن عن قصور ذاتي قد لا تقوى على تحمل المعاناة التي يسببها مع الذات، لأنه قد يفهم على أنه دليل على محدودية فعلها في الميدان وهامشية تأثيرها على مجريات الأوضاع ، أو حجم تأثيرها على ما كنا نسميه ، في اللغة القديمة، موازين القوى السياسية . وهي تخاف ، في المقابل إن هي توقفت عند المؤشرات الإيجابية، في الواقع القائم ، بنغمة احتفالية واستسلمت بعد ذلك للغة المديح والإطراء، أن تكشف عن مسايرة سلبية للنسق العام والأوضاع القائمة ، برمتها وعلى علاتها ، بما قد يضعها في تناقض صارخ مع المزاج العام كما يتبدى من خلال أحاديث الشارع العريض ، وتقييمات الناس العاديين لأحوالهم ومعيشهم، وهو ما قد يخلق لديها معاناة كبيرة يتسبب فيها ذلك الإحساس الذي يصعب على الذات السياسية قبوله ، أي الإحساس بالاغتراب déphasage والتباعد عن المزاج السائد في المحيط العام . على ضوء هذا يصبح التناوب ، في نفس الذات السياسية، بين التعبير عن حالة التشاؤم المفرط في دوائر النقاش الضيقة، ثم إعلان الشعور بالتفاؤل الرخو وسط الجموع في الأكورا، في الفضاء العام والواسع ، دليلا على اهتزاز خطير في القناعات لن تستفيد منه بكل تأكيد عملية التطور الحاسم للحقل الديمقراطي، ذلك أن أولى قواعد التطور كما تتبدى بوضوح من تجربة الأقطار التي أصبحت فيها الديمقراطية خيارا مجتمعيا لا رجعة فيه، هي قول الحقيقة كما هي ، أي العمل على هدي سياسة الحقيقة ، لأنها السبيل الوحيد للتغلب على المصاعب وإبداع الحلول والتقدم المضطرد في البناء المتين للمجتمعات ، يرى هذا في حياة المؤسسات كما يرى في العلاقات بين الفرقاء الاجتماعيين، كما يرى في لغة السياسيين في وسائل الاعلام . بذلك تصبح اللغة السياسية ، في الفضاءات الكبرى كما في الأوساط الضيقة، مرآة يرى فيها الناس مستوى التطور وحجم المشكلات التي تواجههم. لا تستشعر الطبقات السياسية هناك أي خوف أو وجل من قول الحقائق كما هي على الارض، لا تقبل الطبقات السياسية بأسلوب دفن الرؤوس في الرمال ولا يدور في خلدها ان تستعمل ازدواجية في الخطاب أسلوبا للتعاطي مع الواقع السياسي . ذاك ما نحن في حاجة إليه اليوم لبث الدفء في مشهد سياسي أصبح رتيبا ، حتى لا نقول مملا، لا ينفتح على أفق واضح المعالم. |
||
1/20/2014 |
||
باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي
يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…