بوهندي: التكفير ليس حكما شرعيا .. وهو اختصاص الله وحده
قال الدكتور مصطفى بوهندي، مدير مركز أديان للبحث والترجمة بالمحمدية، إن “التكفير عدوان رمزي ومادي على الناس، يبدأ بالاتهام والقذف بالكفر والتفسيق والتبديع، ويصل إلى سلب حرياتهم، وانتهاك أعراضهم، ونهب ممتلكاتهم، وإزهاق أرواحهم”، مؤكدا أن “التكفير ليس حكما شرعيا، بل جريمة عظيمة في الشريعة الإسلامية حاربها الأنبياء”.
وشدد بوهندي، في مقال خص به هسبريس موسوم بعنوان “رسالة في التكفير 1″، على أنه “لا يحق لأي إنسان سواء باسم الدين أو باسم السياسة، وسواء أكان فردا أو جماعة أو مؤسسة، أو من ذوي الاختصاص، القيام بتكفير الآخرين، لأنه حق الله وحده وسيستعمله يوم القيامة، عند الفصل بين العباد”.
وفيما يلي نص مقال بوهندي كما توصلت به هسبريس:
رسالة في التكفير 1
التكفير مشكلة ثقافية عميقة تحتاج إلى مراجعات عدة، بالنسبة للفرقاء جميعا في هذا الوطن؛ والذين يحاول كل منهم إقصاء مخالفيه، باتهامهم بمختلف التهم من أجل إزالة الشرعية عنهم، بشتى الوسائل والسبل ومنها التكفير.
ما هو التكفير الذي نتحدث عنه؟
ربما يود البعض الالتفاف على المعنى الذي نقصده بهذا المصطلح، فيميِّعه من خلال التفريق اللغوي بين الكفر الأكبر المخرج من الملة، والكفر الأصغر المتعلق ببعض الأعمال، أو بين تكفير العين الذي يُقصد به أشخاصٌ بذاتهم، وتكفير النوع الذي يقصد به جماعة أو فئة ما، ارتكبت كفرا معينا في رأي “المكفر”، ليحيلوا الأمر في نهاية المطاف إلى “الجهات المسؤولة” أو “ذوي الاختصاص” من مؤسسات “الشأن الديني” أو “علماء الشريعة” حسب قولهم، ومنعه عن كل من “هب ودب” أو “لم يكن من أصحاب الاختصاص”… وغيرها من المحاولات اليائسة للتغطية عن التكفير الذي تعاني منه مجتمعاتنا وينبغي محاربته، والذي ظهر بعضه في شريط التكفير المتحدث عنه، وفي أشرطة أخرى كثيرة، وتصريحات عديدة لجهات مختلفة رسمية وشعبية، ومن “ذوي الاختصاص” وغيرهم..
وحتى نفوت الأمر على كل محاولات الالتفاف هذه، فإن مقصد المُكفِّر بالتكفير هو إخراج الذين كفَّرهم من الملّة والدين، ونزع الشرعية والمشروعية عنهم، من أجل أن يتركها لنفسه خالصة له من دون مخالفيه. وأما التفريق بين كفر العين وكفر النوع فلا يستقيم كذلك، لأن ما يسمونه تكفير نوع إنما هو تكفير أقوام وطوائف ومجتمعات بشرية، إذا كفروها بالجملة فهو تكفير لجميع أفرادها بالتفصيل؛ مثل تكفير أهل الأديان الأخرى اليهود والنصارى وغيرهم، وتكفير أهل المذاهب الأخرى من شيعة وخوارج ومعتزلة وغيرهم، ومثل تكفير العلمانيين والديموقراطيين ومؤسسات الدولة والنظام والإعلام وغير ذلك، بل وتكفير هذه الجماعات الدينية بعضها لبعض من طرقية وصوفية وحركية وجهادية وسلفية وغيرها؛ فيصير كل فرد من هذه المجموعات، بتكفير النوع هذا، كافرا على التفصيل عند من كفّر جماعته. ومن ثم فلا يغني التفريق بين تكفير النوع وتكفير العين شيئا، ما دام الكل في نهاية المطاف كافرا على التفصيل، وهو ما سعى إليه المكفِّر.
التكفير الذي نتحدث عنه هو عدوان رمزي ومادي على الناس، يبدأ بالاتهام والقذف والسب بالكفر والتفسيق والتبديع، ويسعى إلى انتزاع حقوق المخالفين الطبيعية، كحق التفكير والتعبير والاعتقاد والعبادة، وتأليب عموم الناس ضدهم، ومنعهم من حقوق اجتماعية واقتصادية كثيرة كالزواج والإرث، بل وحقوق دينية ورمزية كالصلاة عليهم ودفنهم في مقابر المسلمين وغيرها. ويصل الأمر إلى سلب حرياتهم وانتهاك أعراضهم ونهب ممتلكاتهم وإزهاق أرواحهم. ومن ثم فهو ليس – كما يدعي البعض – حكما شرعيا، وإنما هو جريمة عظيمة في الشريعة الإسلامية جاء الأنبياء من أجل إعلان الحرب عليها.
تجريم التكفير:
إن للإنسان حقوقا طبيعية عديدة، وهبها الله له في هذه الأرض، عندما استخلفه فيها، ومنها حق الحياة والامتلاك والكرامة والتفكير والتعبير وتسخير ما في الأرض جميعا والعبادة والعدالة الاجتماعية والعيش الرغيد.. وأن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب من أجل تنبيه الناس إلى هذه الحقوق الطبيعية وحثهم على حفظها وضمانها وعدم السماح لأحد بانتهاكها، أو التعدي على بعضهم البعض فيها، وإن اختلفت ألوانهم وأجناسهم وشعوبهم وقبائلهم ولغاتهم وأديانهم وغيرها. ومع ذلك فقد وقعت في التاريخ البشري انتهاكات كثيرة لهذه الحقوق، وكان كل نبي ورسول عليه الصلاة والسلام، تحدث الله عنه في كتبه المقدسة والقرآن الكريم، مثالا ونموذجا لمعالجة حق من هذه الحقوق وما يتعلق بها من أمور وقضايا. وسأضرب مثالين فقط من القصص الدينية، آدم وابني آدم لتجلية الأمر:
آدم والاستخلاف في الأرض:
كان آدم نموذجا ومثالا لأهلية البشر جميعا ليكونوا سادة الأرض والمستخلفين فيها، بحيث سخر له جميع ما في الأرض، يأكل منها رغدا حيث يشاء، لكونها خلقت من أجله وهو المستخلف فيها؛ رغم اعتراض المعترضين عليه بإمكانية إفساده في الأرض وسفكه للدماء، واقترحوا أن يكون المستخلفون فيها بدله، من الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويسبحون بحمد الله ويقدسونه لا يفترون.
يمكن أن نعتبر هذه الإشارة القرآنية هي أول اتهام مباشر للإنسان ب”الإفساد في الأرض” و”سفك الدماء”، من أجل اسقاط حقه في الاستخلاف من طرف الملائكة، وإعطاء هذا الحق لأنفسهم من دونه، لأنهم “يسبحون بحمد الله” “ويقدسونه له”.
وكان الجواب الإلهي لهم صريحا في أن الله اختار الإنسان لاستخلافه لما يعلم من أمره، وقد اختاره بعلمه، ولا سبيل للاعتراض على اختياره لأنه هو العليم الخبير، وقد أهلّ هذا الإنسان عندما علّمه الأسماء كلها، ليكون هو المستخلف الوحيد في هذه الأرض، بغض النظر عما قد يصدر منه من إفساد وسفك دماء.
وهي رسالة واضحة إلى كل الذين يجدون في أنفسهم أنهم “ملائكة؟”، وأنهم أولى الناس بالاستخلاف في الأرض، بقولهم “ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟”؛ ورفضهم لاستخلاف غيرهم لأنهم “يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء؟”؛ تقول لهم هذه الرسالة: لو أراد الله أن يستخلف المسبحين والمقدسين دون غيرهم من سافكي الدماء والمفسدين في الأرض، لاستخلف الملائكة بدل البشر؛ ولكن الله استخلف البشر بناء على مؤهل العلم بالأسماء كلها، والذي بواسطته يستطيعون تسخير ما في الأرض جميعا، كما يستطيعون أن يتفكروا في خلق السماوات والأرض، فيصلون إلى إيمان آخر بالله والغيب مبني على العلم والبحث والنظر، ويقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار، فيجمعون بين العلم والإيمان.
ابنا آدم واختلاف الأديان:
ولم تكن قصة ابني آدم، والتي ذكرت في التوراة والقرآن، إلا بيانا لضرورة الحفاظ على الأخوة البشرية رغم الاختلاف الديني؛ “إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال لأقتلنك، قال إنما يتقبل الله من المتقين؛ قال لإن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين”[1].
لقد قرب الأخوان قربانيهما، فتقبل الله من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، بمعنى أن الخلاف بين الأخوين هو خلاف قرابين وخلاف دين، ولا دخل للواحد منهما في قبول الله من الآخر قربانه، لأن الله هو صاحب القرار في أمر العبادة والدين، ولا علاقة للبشر بذلك، ولا تأثير لهم فيه؛ غير أن الذين لا يخافون الله ولا يتقونه يجعلون من مخالفة إخوانهم لهم في الدين مشكلة، قد تصل إلى الرغبة في قتلهم والتخلص منهم وإهدار دمهم، فقط لأنهم يخالفونهم في الدين والقربان، مع أن حسابهم إنما هو على ربهم؛ وهو الذي يتقبل من المتقين.
رسالة هذه القصة، تبين أن المتقي الحقيقي هو الذي لا يمد لأخيه في الإنسانية يده بالقتل بسبب الاختلاف معه في الدين لأنه يخاف الله رب العالمين؛ وأن جامع الأخوة البشرية مقدم على جامع الأخوة الدينية؛ وأن حق الحياة مضمون لجميع الناس على اختلاف أديانهم، وأن الذين يرغبون في تصفية مخالفيهم من أهل الأديان الأخرى، لا يمكنهم أبدا أن يكونوا من المتقين، وإنما هم مجرمون سيبوؤون بإثمهم وإثم البشر الذين سفكوا دماءهم بدعوى المخالفة في الدين، فيكونون من أصحاب النار. قال تعالى على لسان القتيل: “إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين”[2].
ترتب على هذا الأمر في شريعة الله قانون أساسي جاء في التوراة والإنجيل والقرآن، وهو حرمة قتل النفس التي حرم الله، بغض النظر عن انتمائها الديني أو القبلي أو اللغوي أو غير ذلك؛ قال تعالى: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون”[3]
حرم الله قتل النفس إلا بالحق، ومن قتل نفسا واحدة بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل جميع أنفس البشر ؛ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.
هذه القاعدة هدمتها ثقافة التكفير، ليست فقط عند المسلمين، ولكن عند اليهود والنصارى كذلك من قبل، واختلق لها مستغلو الأديان في تاريخ الأديان روايات عنصرية، نسبوها إلى الله ورسله، واختلق لها القائمون على الدين والسياسة في تاريخنا الإسلامي، روايات نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا منه سفاكا للدماء – حاشا لله – هو والمؤمنون معه؛ وجعلوه “بُعث بالسيف”، وأن الناس بما فيهم من شعوب وأمم بعيدة وقريبة، “لا يعصمون منه” ومن خليفته ومن جيشوهم “دماءهم” وأملاكهم وأعراضهم “إلا إذا دخلوا في دينه”، اختيارا أو إجبارا؛ واقتُرفت بسبب ذلك في تاريخ الإسلام ونشر دعوته مجازر رهيبة؛ دينُ الله ورسولُه بريئان منها.
واستُغِلت نصوصٌ قرآنية عديدة فُصِلت عن سياقاتها وحُرِّفت عن مواضعها، التي جاءت في إطار “الدفاع العسكري على العدوان العسكري”، والتي كان القرآن يصر دائما على عدم تجاوز دفاع المؤمنين إطار العدوان، مع الأمر بالصبر والاحتساب والعفو والصفح والإحسان؛ وقرئت هذه النصوص قراءة مطلقة، جعلت الأصل هو هدر الدماء والأعراض والأديان، وأن الاستثناء إنما يكون بإحدى ثلاث، إما الدخول في الإسلام وإتباع الحاكم المسلم أو الاعتراف بالخضوع له عن طريق تقديم الجزية والدخول في شروط أهل الذمة، أو القتل والاستئصال.
ولما وجدوا العديد من النصوص القرآنية الواضحة، تحرم دماء الناس، وتحرم العدوان عليهم، وعلى أديانهم وأملاكهم وأعراضهم وأشياءهم المختلفة؛ وتأمر بالتعامل بالحسنى مع الناس جميعا، والكلمة السواء مع أهل الكتاب، والجدل معهم بالتي هي أحسن، والتعايش معهم بالإحسان، والاختلاط بهم ومشاركتهم في مأكلهم ومشربهم والتناسب والتزاوج معهم؛ والعفو والمغفرة والصفح عنهم إن أخطئوا، وترك أمر المحاسبة والمراقبة إلى الله، ومنع التسلط والسيطرة والإجبار والإكراه في الدين؛ لما لم تسعفهم هذه النصوص اختلقوا لذلك علما في علوم القرآن سموه الناسخ والمنسوخ وعلما آخر سموه المحكم والمتشابه؛ أبطلوا بالأول كل النصوص المخالفة لرأيهم، بما أسموه آية السيف وآيات أخرى، وقالوا إن آية السيف وحدها قد أبطلت مائة آية في القرآن، تتعلق بالتعامل الإنساني الرحيم مع جميع البشر وجميع الأديان. وأولوا بالثاني نصوصا عديدة على غير ظاهرها وخارج سياقها لتناسب بعض رواياتهم التي حكوها وقواعدهم التي أسسوها؛ واعتبروا هذين العلمين أساس علم تفسير القرآن وتدبر نصوصه، مع الاعتماد الدائم على الآثار وأقوال السلف، وهي جميعها تنتمي إلى ثقافة صراع دينية عالمية، كانت أغلبها عبارة عن ردود أفعال للعدوان المتبادل بين الأمم والمذاهب، وفي إطارها فسرت نصوص القرآن تفسيرا “إسلاميا” تاريخيا، لم تستحضر فيه أبعاد وقيم كثيرة، إنسانية وحضارية وعالمية. وأصبح من لم يعتمد على هذا التفسير “التاريخي”، مع ما تضمنه من ثقافة التكفير، فإنه قد “هلك وأهلك” كما يقولون.
ثقافة التكفير غيرت أمورا كثيرة في الدين، وجعلت منه دينا طائفيا عنصريا بعيدا عن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الرحيمة، التي جاءت تحت عنوان: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”. وقدمت لنا دينا قبليا عنصريا وطائفيا بديلا لا يقبل إلا جماعة وقبيلة واحدة، تتلون بلون الحاكم ولون الطائفة المهيمنة، تُكفر جميع الناس وجميع الشعوب وجميع الأديان وجميع الطوائف الأخرى، وتستبيح دماءهم وأموالهم وأعراضهم، جاءت تحت عنوان: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم إلا بحقها”، وفي روايات أخرى هناك إضافة الصلاة والزكاة وغيرها.
هناك نصوص قرآنية كثيرة وردت في قصص الأنبياء والرسل من نوح إلى محمد عليهم الصلاة والسلام جميعا، قدّمت لنا رسالاتهم التي بعثوا بها، رحمة ونعمة وفضلا على الناس، ودعوة إلى الخير والحب والمساواة والعدل وحفظ حقوق البشر الطبيعية، من المستغلين لها باسم السياسة أو الدين، وتعرض هؤلاء الأنبياء والرسل لكثير من الاتهامات بالكفر والكذب والسحر وغيرها من هؤلاء المستغلين؛ فاتهم نوح عندما جاء قومه بالرسالة، قال تعالى: “وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقالوا هذا ساحر كذاب؛ أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء يراد، وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد.”[4] واتهم موسى من قبل فرعون بتبديل الدين والفساد في الأرض: “وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو يظهر في الأرض الفساد”[5].وتعرضوا جميعا لأشكال مختلفة من التعذيب والاضطهاد ومحاولة القتل، بناء على ما سبقها من اتهامات. منهج الأنبياء عليهم السلام كان منهج الدعوة بالحسنى والقول اللين والمجادلة بالتي هي أحسن، ولم يكن منهجا تكفيريا كما هو الشأن بالنسبة لمنهج الكافرين من أقوامهم؛ ولعل السبب في ذلك يرجع إلى كونهم يحملون رسالة حق ورحمة، تؤازرها الآيات البينات والحجج فلا يحتاجون إلى غيرها؛ بينما يستعمل أقوامهم الاتهامات والتهديدات وأعمال العنف المختلفة التي تصل إلى حد القتل، لأنهم لا سبيل لهم إلى مواجهة بيناتهم إلا بهذا السبيل.
من يحق له التكفير:
بعث الله رسله مبلغين لرسالاته ومبشرين ومنذرين، ووردت في هذا الشأن نصوص عديدة. منها قوله تعالى: ” فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ”[6]
وليس على هؤلاء الرسل أمر تولي الناس أو إعراضهم وعدم استجابتهم، وإنما حسابهم على الله؛ قال تعالى: “فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين.”[7] وقال عز وجل: “وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين.”[8] وقال سبحانه: “وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب”[9]
كما حذر الله الرسل من أن يتجاوزوا مهمتهم التبليغية، ويُنصِّبوا أنفسهم جبارين على الناس أو مسيطرين أو حفاظا عليهم، وكذلك الشأن بالنسبة لأتباعهم، فمهمتهم هي مهمة الدعوة والتبليغ فقط؛ قال سبحانه: “فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا، إن عليك إلا البلاغ.”[10] وقال عز وجل: “فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر، إلا من تولى فكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر.”[11] وقال جل وعلا: “نحن أعلم بما يقولون، وما أنت عليهم بجبار، فذكر بالقرآن من يخاف وعيدي”[12].
مهمة المحاسبة والسيطرة والجبروت والحفظ على الناس ليست إذن من مهام الداعية المبلغ أو كما سماه القرآن الكريم “المذكر”، وهي لم تكن من مهام رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء والرسل من قبله؛ وهي مهام يمكننا أن نطلق عليها ما نسميه اليوم “التكفير”، إذ أن المُكفِّرين يسمحون لأنفسهم بالتسلط على الناس والسيطرة عليهم ومحاسبتهم، وإصدار صكوك الجنة والمغفرة لبعضهم وتذاكر الجحيم والعذاب لآخرين؛ بل وإصدار فتاوى الإيمان والحياة لأناس، وفتاوى الكفر والقتل لآخرين؛ وهو أكبر الظلم.
وجوابا على سؤال من يحق له التكفير؟ فإنه لا يحق لأي إنسان سواء باسم الدين أو باسم السياسة، وسواء أكان فردا أو جماعة أو مؤسسة، أو ممن “هب ودب”، أو من ذوي الاختصاص؟ لأنه حق الله وحده وسيستعمله يوم القيامة، عند الفصل بين العباد. ومن استعمل هذا الحق الإلهي، فإنه ينتحل صفة الله، ويجعل من نفسه إلها يتميز عن باقي البشر، ويسمح لنفسه بالحكم عليهم في الدنيا بالكفر أو الإيمان، ويحكم عليهم بالجنة أو النار في الآخرة، وهو منتهى الطغيان والتسلط على الناس.
يتبع..
_____________
[1] سورة المائدة 27-28.[2] سورة المائدة 29.
[3] سورة المائدة آية 32.
[4] سورة ص 4-6.
[5] سورة غافر 25-26.
[6] سوزة النحل 35.
[7] سورة النحل 82.
[8] سورة التغابن 12.
[9] سورة الرعد 40.
[10] سورة الشورى 48.
[11] سورة الغاشية 21-23.
[12] سورة ق~ 45.
………….
عن صحيفة هيسبريس