التاريخ بين البداية والنهاية
بقلم سعيد بنسعيد العلوي
الجمعة – 16 شهر ربيع الأول 1435 هـ – 17 يناير 2014 مـ
قبل أزيد من 20 سنة، سنوات قليلة قبل سقوط جدار برلين، أصدر فرانسيس فوكوياما، الباحث السياسي وأستاذ العلوم السياسية في جامعة ستانفورد حاليا، كتابه «نهاية التاريخ». بعد صدور ذلك الكتاب الذي حظي بشهرة واسعة ونقل إلى كبريات لغات العالم وبيعت منه عدة ملايين من النسخ، أصدر صديق فوكوياما المذكور وأستاذه صامويل هنتنغتون كتابه الذي ستطبق شهرته الآفاق وسيشغل الناس ما يربو على العقد الكامل من الزمان: «صدام الحضارات». والناظم بين الكتابين واحد، فهما في العمق يتكاملان، وهما، كل على طريقته، يسجلان ما يعتبرانه الانتصار النهائي للديمقراطية الليبرالية وقيمها وإعلان الهزيمة الكاسحة للآيديولوجيا الماركسية، ومن ثم انهيار القيم التي تقوم عليها مع انهيار جدار برلين في فعل رمزي – تاريخي ينضح بالدلالة ويفيض بالمعاني. وفي نظر الكثير من الدارسين، ولعلي آخذ بالكثير مما يذهبون إليه، فكل من هنتنغتون وتلميذه ذي الأصول اليابانية يعمل على التأصيل النظري للعولمة أطروحةً، ولنظام القطبية الأحادية فكرا وأفقا للتفكير معا. غير أن هذا كله ليس موضوع حديثي اليوم، وإنما أريد أن أوجه اهتمام القارئ العربي إلى الكتاب الذي أصدره قبل عامين صاحب «نهاية التاريخ»، وجعل له عنوانا يحمل شذى العنوان المشار إليه، وإن كان يوحي بعكس ذلك. وعنوان كتاب فوكوياما الجديد هذا هو «بداية التاريخ»، وحيث إن الكتاب المذكور لم ينل كبير اهتمام المثقفين العرب، بل لعلي أجيز لنفسي القول، إن معرفة الكتاب (أطروحة، ومضامين، مجالا للتفكير في قضايا راهنة ليس واقعنا العربي بأقلها شأنا) لا تزال معرفة محدودة ومنحصرة في نطاق ضيق جدا، فإنني أود في حديث اليوم، أن أعرض بالتعريف بالمضامين والقضايا الكبرى لكتاب «بداية التاريخ»، على أن نترك مساءلته مساءلة نقدية، وكذا التفكير فيه، في ضوء واقعنا العربي الحالي، إلى فرصة أخرى.
فما الفكرة المحورية في الكتاب الأخير لأستاذ العلوم السياسية فرانسيس فوكوياما؟
الديمقراطية الليبرالية الحديثة الناجحة هي التي تجتمع فيها المكونات الكبرى الثلاثة: الدولة، السلطة العليا للقانون، المسؤولية الحكومية، وكل ذلك وفقا لتوازن قار.
والقصد بالدولة هو الدولة في المعنى الحديث للكلمة، تلك التي تشرحها وتحددها النظريات السياسية – الاجتماعية التي تعرف بنظريات التحديث، أي تلك التي تشرح الكيفية التي تم بواسطتها الانتقال من أزمنة سابقة تنعت بعالم ما قبل الحداثة إلى عالم الحداثة، وهو العالم الذي يمثل العالم الغربي صورته التي أخذت في التشكل منذ عصر النهضة (القرن الـ16) لتبلغ غايتها من التطور والنضج في نهاية القرن الـ18 بالنسبة لأوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الأهلية وإعلان الائتلاف الذي ستغدو بموجبه أميركا الشمالية على ما هي عليه الآن. الدولة الحديثة تحمل عددا من الخصائص، وإذ لا يتسع المجال ببسط القول فيها فلا أقل من ذكر الخصائص الكبرى الثلاث: سلطة مركزية قارة، احتكار العنف، وبسط السيطرة على بقعة ترابية معلومة بحدودها المعترف بها، والسيادة.
أما السلطة العليا للقانون فتعني اعتبار القانون في استقلال تام عن الدولة، وبالتالي فهي الضمانة التي تحمي من عسف السلطة وتجعل الناس في اطمئنان على أرواحهم وممتلكاتهم، كما أنها الضمانة في احترام العقود والمواثيق.
وأما المسؤولية الحكومية فهي التي تجعل التمثيل الذي يملكه من يمثل سيادة الأمة مسؤولا أمام الشعب الذي يمثله. وهذه المسؤولية قد اتخذت في التاريخ البشري أنواعا متنوعة تتفاوت بين المسؤولية الأخلاقية المحض التي تجعل الحاكم مطلق اليد، فهو لا يرى نفسه مسؤولا إلا أمام ضميره وشرفه، والمسؤولية الصورية وفقا لمسطرة قانونية متفق عليها (المسؤولية أمام البرلمان أو المجلس التشريعي للأمة في تنوع أشكال التمثيلية في المجلس واختلاف نظمها بين أمة وأخرى، وبين اختيار سياسي وآخر…).
ثم إن فوكوياما يوجه الانتباه إلى أمرين اثنين؛ أولهما، هو أن الدولة في المعنى الحديث للمفهوم (سلطة مركزية، بيروقراطية إدارية قوية، ولاء للدولة مطلق وليس للعشيرة ولا للأسرة، سمة لا شخصية للدولة… إلخ) قد ظهرت في التاريخ، أول ما ظهرت، في الصين القديمة منذ ما يربو على الألف سنة، وليس في أوروبا الغربية منذ نحو 300 فقط، كما تذهب إلى ذلك – خطأ – نظريات التحديث الكلاسيكية، تلك التي ترى في التاريخ الأوروبي البراديغم الذي يتعين الأخذ به. وثاني الأمرين، هو أن اجتماع العناصر الثلاثة وقيام التوازن الضروري للممارسة السليمة في الديمقراطية الليبرالية (على نحو ما نجد عليه الصورة العليا لتلك الديمقراطية في مملكة الدنمارك اليوم، ثم تنازليا في دول أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، ثم عند باقي الديمقراطيات الأخرى الحديثة النشأة في العالم) لا يتحقق في الواقع إلا في الدول القليلة التي تقدم المثل الأعلى للديمقراطية الليبرالية الحق. وصاحب «بداية التاريخ» يأتي بأمثلة كثيرة تدل على وجود نظام ديمقراطي (بدلالة توفر الانتخابات الديمقراطية من جهة، وإقرار بالقانون سلطة عليا لا سلطة تعلو عليها) مع انعدام المسؤولية الحكومية أو استخفافها بتطبيق القانون من جهة أخرى، كما هو الشأن في الحكومة الروسية الراهنة، تلك التي يظل فيها أتباع بوتين وأصدقاؤه في منجاة عن كل مساءلة قضائية. كما أن هنالك أمثلة أخرى يجتمع فيها تحقق انتخابات ديمقراطية، مع شرط قيام الحكومة المسؤولة، ولكن ضعف الدولة يحول دون تطبيق القانون وبسط هيبته على كل البلاد، وبالتالي يحول دون قيام الديمقراطية الليبرالية.
المشروع الذي يتصدى له فوكوياما في «بداية التاريخ» هو القيام بفحص التاريخ البشري، من خلال أمثلة حضارات معلومة نشير إليها، فحصا يستهدف استجلاء النمط الذي ظهر به في التاريخ هذا المكون أو ذاك من المكونات الكبرى الثلاثة التي يذكرها ويرجع إليها دوما، كـالدولة في المعنى الحديث للمفهوم، والسلطة العليا للقانون، والمسؤولية الحكومية. والحضارات الكبرى التي يقوم بالرجوع لتاريخها عبر المدد الطويلة هي كـالصين، والهند، ودول الشرق الأوسط الإسلامية، كما ينعتها بذلك (ظهور الإسلام، الخلافة الأموية، الخلافة العباسية، الدولة الغزنوية في أفغانستان، سلطنة المماليك في مصر، الإمبراطورية العثمانية).
أما الصلة بين نهاية التاريخ وبدايته فهي أن الكتاب الجديد يسعى إلى تعميق أطروحة الكتاب الأول والدفاع عنها بسلاح التاريخ ذاته.. وذاك حديث آخر.
عن جريدة الشرق الاوسط