الاسلاموفوبيا والديمقراطية من التكفير إلى التنكيل

 بقلم .. كمال الهشومي باحث في العلوم السياسية

عن موقع رؤية الشاهد

17 يناير 2014

تنقسم كلمة الاسلاموفوبيا إلى كلمتين رئيسيتين: “الإسلام”   ” Islamوهو عقيدة المسلمينبأركانه وواجباته، و”فوبيا” “Phobie” الذي يشير مصطلحها إلى خوف لاشعوري وغير مبرر من مواقف أو أشخاص أو نشاطات أو أجسام معينة، وهو بذلك يصنف كمرض نفسي يتم علاجه. ومن أشكال هذا المرض: الخوف من الأماكن والمناطق المرتفعةAcrophobie” الخوف من الأجانبXénophobie“- الخوف من الأماكن المغلقة”Claustrophobie“، وعند إضافة هذه الكلمة إلى الإسلام مشكلة “إسلاموفوبيا” يصبح المعنى: خوف مرضي غير مبرر وعداء ورفض للإسلام والمسلمين. ويشير هذا المصطلح كذلك إلى النتائج العملية المترتبة عن هذا العداء سواء تجاه الأفراد أو المؤسسات. وهو تعريف قد يعتبر غير دقيق، لأن الأمر هنا لا يتعلق بمرض أصاب المجتمع كان عربيا أو غيره، وإنما هو ظاهرة لها أسبابها السياسية والاجتماعية.. لكن يبقى أن هذا المصطلح يعبر عن المشاعر السلبية التي تجتاح المجتمعات وخاصة الغرب تجاه المسلمين، مشاعر تترجم سلوكيات مجحفة في حق الإسلام والمسلمين. وقد لوحظ استخدام هذا المصطلح منذ عام1976 ، لكن استعماله بقي نادراً، ومع بداية  من القرن العشرين، انتشر المصطلح انتشراً سريعاً بعد  أحداث 11 شتنبر 2001،  وانتقل المصطلح بمعنى الخوف من الإسلام من اللغة الانجليزية إلى لغات العالم المختلفة بدون استثناء. وأول من استعمل اللفظ عند الكتّاب الفرنسيّين ماليه إميلMallet Emile” في مقال بعنوان “ثقافة ووحشية” نشره في جريدةLe Mondeالفرنسية سنة 1994، إذ تحدّث عن “صنف من الاسلاموفوبيا الزّاحفة”،  ثمّ وجدت هذه العبارة استخداما دوليا كبيرا، وخاصة من جانب الجماعات الإسلامية المحافظة، على الأخص الجهادية والدعوية السلفية، تستغل المصطلح التعميمي، لذر الرماد في العيون وإعطاء انطباع انه لا مبرر للخوف من ممارساتهم التي مارسوها تحت خيمة الإسلام وسببت ردود الفعل السلبية، وكأنه ليس هناك مبرر على الإطلاق استدعى نشوء هذه الظاهرة.

وبالنظر إلى هذه التعاريف والتداول الذي دأب عليها المجتمع الغربي لاستعمال هذا المصطلح ذو الحمولة الكبيرة كما رأينا؛ فان منظروا هذا المجتمع يرتبون تحديدات دقيقة يحاولوا من خلالها إضفاء شرعية التداول وبالتالي التثبيت الواقعي حسب المعيش اليومي لهذا المفهوم، ومن بين هذه المحددات ما ذهبت  إليه مؤسسة بريطانية تدعى (The Runnymede Trust)  تعنى بأمور حقوق الإنسان والأقليات والعرقيات في المجتمع البريطاني، في تقرير لها بعنوان: «الإسلاموفوبيا: تحد لنا جميعا» بوضع مجموعة من المحددات أو العناصر التي متى وجدت –حسب المؤسسة- فتم ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، وهذه المحددات هي:

  • ·         الإسلام كتلة وحدانية معزولة، جامدة وغير مستجيبة للتغيير.
  • ·         الإسلام مميز وغريب، وليس لديه قيم وأهداف مشتركة مع الثقافات الأخرى. لا يتأثر بها، ولكنه يؤثر فيها.
  • ·         الإسلام أدنى من الغرب، وحشي، بربري، غير عقلاني، بدائي ومتحيز ضد النساء.
  • ·         الإسلام دين يتسم بالعنف والعدوانية، تهددي، يدعم الإرهاب ويذكي حرب الثقافات
  • ·         الإسلام هو الأيديولوجية السياسية، تستعمل لأهداف سياسية أو عسكرية.

وانطلاقا من هذه المحددات تعتبر هذه المؤسسة أن أية عملية لنقد يقدم من الإسلاميين تجاه الغرب فهو مرفوض جملة وتفصيلا، وهو ما يشرعن كذلك استعمال العداء تجاه الإسلام لتبرير ممارسات تمييزية تجاه المسلمين وإبعادهم عن المجتمع المهيمن، واعتبار العداء تجاه المسلمين أمرًا عاديًّا وطبيعيًّا بل ومبررًا. حيث اجتهد الغرب في العديد من النظريات من اجل مهاجمة الإسلام ومعتنقيه، وفي هذا الصدد يقول مارتن لوثر مؤسس الكنيسة البروتستانية: «لقد استيقنت أنه لا يمكن عمل شيء أكثر إزعاجا لمحمد” Mahmetأو الأتراك، ولا أشد ضررًا -من جميع أنواع السلاح- من ترجمة قرآنهم ونشره بين المسيحيين، عندئذ سيتضح لهم أي كتاب “بغيض” و”فظيع” و”ملعون”، هذا القرآن مليء ب”الأكاذيب” و”الخرافات والفظائع”«  (أنظر: الإسلام في التراث الغربي- دراسات ألمانية، ترجمة ثابت عيد، طبعة نهضة مصر القاهرة 1999 / سلسلة في التنوير الإسلامي)

إن انطلاق موضوعنا بتقديم هذه التعاريف والمواقف المطلقة التي تحكم على الدين الإسلامي من زاوية ضيقة تقاس عموديا على تصرفات من يلبسون لباس الإسلام ويتصفون بصفاته الخارجية والشكلية فقط، دون عمقه وأبعاده وإدراكه للقضايا، تجعلنا نطرح اليوم السؤال عن واقعية طرح هؤلاء الذي يصفون عقيدة المسلمين بهذه الصورة البشعة والمخيفةّ، متناسين أن الأمر يتعلق بتصرفات وقناعات بشرية تبقى في عموميتها نسبية لأنها من صنع وممارسة البشر النسبي بطبيعته، وليس الإسلام باعتباره عقيدة سماوية ارتقى بالكائن البشري إلى أسمى مستويات الكرامة والاعتبار، وبعيدة كل البعد عن ما وصفته تلك التحديدات التي تنعث الإسلام بكون كتلة وحدانية معزولة، جامدة وغير مستجيبة للتغيير، بل إن الواقع يثبت عكس ذلك لكون الإسلام دين يحوي معاني كثيرة ومختلفة ومتطور ومتجدد بطبعه.

إن تعاليم وقيم الإسلام هي إما موافقة للديانات السابقة أو محسّنة لها وليس مميز وغريب مع الثقافات الأخرى، وليس  أدنى من الغرب، أوحشي، أو بربري، أو غير عقلاني، أو بدائي ومتحيز ضد النساء؛ بل تكلم القرآن ومدح العقل ودعا إلى استخدامه، والردود موجودة على تكريمه للمرأة والارتقاء بها، ولا يدعوا أبدا إلى العنف والعدوانية، أو التهديد، بل إن تسميته بالإسلام هي من الأصل الثلاثي: سلم أي السلام وضد العنف، والإسلام ليس بأيديولوجية سياسية، تستعمل لأهداف سياسية أو عسكرية.

لكن الواقع المعاش، وخاصة بعد ما سمي بالربيع العربي، وما نحياه اليوم يزكي مباشرة ما يذهب إليه الغرب من توصيفات ونعوت سلبية للإسلام وللمسلمين، أو بالأحرى من يتصف بصفة الإسلاميين وليس المسلمين، زاعمين أن مرجعيتهم الإسلام، متبجحون بأنفسهم أنهم من قاد الفتوحات الديمقراطية والثورات الشعبية تجاه المستبدين بالحكم والمتسلطين بالبلاد والعباد، تطور جعلهم بالفعل يقدمون أنفسهم الحاملون لقيم وقواعد الديمقراطية، لكن على مستوى التسمية فقط، وهو ما تبدى جليا من خلال ممارسة للحكم بطرق ويمنهجية تشتم من خلالها، بل تلمس تواجد البعد الثيوقراطي في الحكم، بعد يرتبط بغيبيات وباسقاطات ليس لها علاقة بانتظارات ومتطلبات الشعوب من حيث مصاعب الحياة واكراهاتها، ونعتوا معارضوا منهجهم بكونهم يعارضون الإله، ويعارضون الدين والعقيدة، باعتبارهم مفوضين من هذا الإله لتدبير شؤون البلاد والعباد، وليست هنا المناسبة لتبريز فضائل وسمو العقيدة الإسلامية عن هذه التراهات، لكن الأهم هو مدى استيعاب هذا التوجه من “الاسلاموفوبيا” بواقع الحال والمنطق والعقل.

إن الخطر من هذا ليس في تملك الحقيقة بهذه الخرافات والاكاديب، بل الخطر كل الخطر، على تشويه سمعة المنهج الإسلامي المسالم والمتقدم على كل هذه الثقافة والعقليات الجامدة، واعتباره سبة ومؤشر للتخلف البشري والتراجع الديمقراطي، وليس الهدف هو الإساءة إلى أصحاب هذا التوجه، ولكن لا يستقيم وجودهم في هذه الحياة حتى لو تبوؤوا المراكز والمراتب العليا في تدبير الدولة والمجتمع، لأنهم مهما بلغوا فهم مجرد تيار ليس لغيابه أي تأثير على حياة البشرية، بل على العكس فان تواجده واستمراره بنفس الكيفية والمنهج سيضر أجيال متلاحقة وسيزيد من الاحتقان والتشويه وتقديم الصورة السلبية المفعمة بكل صفات التخلف والنكوص.

في سؤال لأحد المشايخ عن الديمقراطية، أجاب: « هذه الديمقراطية ليست من الإسلام، وإنما هي من الأشياء المحدثة، من العقائد التي يستعملها الكفرة، والديمقراطية تعني: قول الأكثرية، العبرة بالأكثر، الإسلام لا يعمل بهذا، الإسلام عنده الشورى، وعنده أيضًا أهل الحل والعقد، العبرة بأهل الحل والعقد، الديمقراطية عندهم الأصوات، الأصوات يعني بالأكثرية، الانتخابات تكون بالأكثرية هذه الديمقراطية ليست من الإسلام في شيء، وإنما هي مبدأ مبتدع، مبدأ كفري لا يقره الإسلام. وإنما الاختيار والانتخاب في الإسلام يكون لأهل الحل والعقد، إذا اختار أهل الحل والعقد من كل قبيلة كفى، ولو لم يبايع الأكثر، ……فإذا بايعوا فالباقي تبع لهم، إذا بايع من القبيلة واحد أو اثنان أو ثلاثة يكفي، … المقصود: أن الديمقراطية هذه مبدأ عند الكفرة وليس من الإسلام في شيء».

انه يحاول بجهده كشف تعارض الديمقراطية مع الدين، أي الديمقراطية كما يفهمها مع الدين كما يفهمه ويفسره، انه التخويف الشديد من الديمقراطية كما فهمها الشيخ، ويظهر الحديث عن البديل الإسلامي من وجهة نظره، لا ينظر للإسلام العالمي المطلوب انتشاره في كافة أنحاء المعمورة، إسلام متجدد يستجيب لمتطلبات البشرية في القرن الحادي والعشرين وما بعده، وإنما ينظر إليه من خلال مجتمع محلي قبلي. إن المشكلة التي تبدو ليست في جواب الشيخ، ولكنها في الجاهزية والاستعداد الاجتماعي في تلقي جوابه بالقبول دون مناقشة، أو محاولة لمعرفة الديمقراطية ذاتها من مصادرها. إنه باختصار غياب العقل النقدي، وسيادة الثقافة التلقينية.

الدكتور عبد العزيز بن ريس الريس كتب مقالا بعنوان: «الديمقراطية ليست من الإسلام في شيء» استهله بالعبارة التالية: إن الديمقراطية تعني: «حكم الشعب بالشعب، فما كان عليه الأكثرية من الشعب يحكم به. وهذه محرمة وليست من دين الله في شيء».

ثم يسوق الأدلة على تحريم الديمقراطية، مركزا على المسألة التشريعية وأنها لا يمكن أن تناط بالأكثرية التي ورد ذمها في القرآن الكريم، وأن الديمقراطية -حسب قوله- تساوي بين العالم العارف والفلاح الجاهل، وأن حرية الدين وحرية التعبير – وهما من مبادئ الديمقراطية – يتصادمان مع الإسلام.

وهذا الخطاب يحتاج إلى مناقشة مستفيضة ولكننا نتساءل: أليس للناس ولاية على أنفسهم؟ ألم يخلق الله الناس أحرارا يستطيعون تقرير شؤونهم الدينية والدنيوية بأنفسهم، ويتحملون تبعا لذلك النتائج؟ أم أنه لا خيار لهم أبدا في ذلك؟

هل هناك حرية دينية أعظم مما قاله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ….﴾ الكهف: 29

وقوله تعالى: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ …﴾ البقرة: 256

ثم ما هو البديل عن الديمقراطية التي تعني المشاركة الشعبية في إدارة شؤون الأمة؟

من السهولة أن نقول: إن الديمقراطية ليست من الإسلام في شيء، فالنقض أمره هين؛ ولكن المسألة الصعبة هي في إنتاج الحل الواقعي البديل الذي لا يكتفي بالقول: الإسلام هو الحل. إذ إننا في الواقع لا نتحدث عن إسلام واحد، بل عن عدة تفسيرات وتأويلات للإسلام، «وكل يدعي وصلا بليلاه»، فلا بد إذن من التفصيل بدل الإجمال.

وبعد ظهور اعتراضات كثيرة من الناحية العقائدية على الديمقراطية ذهب بعض المفكرين الإسلاميين إلى تبرير تبنيالإسلام السياسي للديمقراطية ، إلى ادعاء الفصل بين الفكر التنظيري الديمقراطي، وبين آليات الديمقراطية، مدعين رفض الأسس النظرية التي تقوم عليها الديمقراطية، باعتبارها تتعارض في الكثير من أسسها النظرية مع العقيدة الإسلامية ، في مقابل تبني الآليات الديمقراطية، على أساس أن الآليات هي مجرد وسائل عملية لا تنطوي على فكر أو عقيدة، بل هي آليات محايدة يستخدمها “المسلم” كما يستخدمها “الكافر”، كالسيارة التي يستخدمها المسلم في الذهاب إلى المسجد ويستخدمها النصراني في الذهاب إلى الكنيسة،

فلعقود والديمقراطيون الحقيقيون يناضلون بكل أشكال النضال ضد أنظمة الاستبداد بكل تلاوينها الرجعية اليمينية والثورية التقدمية، فكانت نضالاتهم تصب في جوهر النضال الديمقراطي ما دامت من أجل الحرية وضد الاستبداد، لقد سيِّروا المظاهرات وقاموا بالاعتصامات وحملوا السلاح أحيانا ودخلوا السجون والمعتقلات واستشهد كثيرون دفاعا عن كرامة وحرية الوطن والمواطن. خلال هذه المسيرة الطويلة الممتدة ما بعد الاستقلال مباشرة حتى نهاية الثمانينيات راكم المناضلون إنجازات مهمة حيث ساهمت في إثارة الرأي العام وخلقت حالة من الوعي الجماهيري دفعت الأنظمة لتخفيف قبضتها الأمنية وللتفكير بمصالحة قوى المعارضة ومحاولة استمالتها. خلال هذه المسيرة لم تكن جماعات الإسلام السياسي جزءا من الحركة النضالية الشعبية التقدمية والديمقراطية المتصادمة مع أنظمة القمع والاستبداد. بعض الجماعات الإسلامية دخلت بمواجهات ساخنة مع أنظمة سياسية حاكمة، ولكنها لم تكن تندرج ضمن النضال الديمقراطي بل كانت أقرب لمحاولات الانقلاب على السلطة للهيمنة عليها وتطبيق الإيديولوجية الدينية لهذه الجماعات وهي أيديولوجيا غير متصالحة مع الديمقراطية بل كانت آنذاك تنظر بريبة للديمقراطية و الديمقراطيين. صحيح أن جماعات الإسلام السياسي واجهت في بعض المراحل النظام السياسي وعانت من بطشه وكانت تريد تغيير الوضع القائم، ولكن لم يكن واردا عندها تأسيس نظام ديمقراطي يؤمن بالمشاركة والتعددية السياسية، بل كانت تريد إحلال استبداد أنظمة وضعية باستبداد أنظمة دينية.

لقد كان الديمقراطيون والتقدميون حلقة وصل في مواجهة غريمين سياسيين عنيفين في الأمام النظام السياسي المستبد وفي الخلف جماعات الإسلام السياسي، وفي كثير من الحالات كانت الجماعات الدينية تأخذ موقع المحايد المراقب لما يجري من تصادم بين الأنظمة ومعارضيها من السياسيين، وبعضها كان اقرب لمواقف الأنظمة لأنها لم تكن تؤمن بالديمقراطية وثقافتها وأحيانا كانت تنظر للقوى الديمقراطية باعتبارها “علمانية” و”كافرة”، وقد وظفت بعض الأنظمة فزاعة الإسلام السياسي –الاسلاموفوبيا- لقطع الطريق حتى على القوى التقدمية والديمقراطية الحقيقية.. ومن هنا لاحظنا أن جماعات الإسلام السياسي لم تدخل في تحالفات ثابتة مع القوى السياسية الديمقراطية والتقدمية في أي دولة عربية، وكنا وما زلنا نسمع عن القوى الإسلامية والقوى الوطنية أو القومية، ونسمع عن الصحف الإسلامية والصحف الوطنية والقومية، ولم يكن مفهوم الوطن والهوية والثقافة عند الجماعات الإسلامية يتوافق مع مفهومهم عند القوى الوطنية والقومية والتقدمية.

ما بين مطرقة السلطة وسندان جماعات الإسلام السياسي أنتجت ظاهرة “الاسلاموفوبيا” يتم سحق الأوطان والقوى الديمقراطية الحقيقية في العالم العربي. انسحاق الأوطان التي تشكل فضاء للحرية والمساواة والعيش الكريم لكل مكونات الشعب دون تمييز طائفي، فكري أو عرقي، وانسحاق القوى التي ناضلت لعقود للانعتاق من رقبة الاستبداد والتخلف والمتطلعة للحداثة والتقدم واحترام حقوق الوطن والمواطن، وتحويل الشعب من ساكنة ورعايا إلى مواطنين، وتحويل الأرض التي يقيمون عليها من محل إقامة، إلى وطن يفتخرون بالانتساب إليه والعيش فيه.

وبعيدا عن اختزال قضية الديمقراطية وشخصنتها في صراع التيار الإسلامي والتيار الحداثي، فان الديمقراطية اليوم تتعرض لعدة مخاطر، أهمها ثالوث مخيف ترتكز أضلاعه على تصاعد وتيرة خطاب فاشى اقصائى من ناحية، ويعتمد على تشجيع ظاهرة “الاسلاموفوبيا”، ثم الدعوة الواضحة لتهميش الطبقات الدنيا والفقيرة. ويهدف إلى الالتفاف على مبدأ المساواة في الحقوق بين كل المواطنين. مما يستوجب خوض معركة جدية ضد “الإسلاموفوبيا” يتطلب خطابا أكثر عقلانية وأقل دوغمائية، يحترم المبادئ العامة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية بشكل عام وليس بشكل انتقائي، كما يجب التنبيه على الفرق بين الإسلام في مصادره وبين المسلمين في أنفسهم وبحالتهم التي هم عليها، وبين الإسلام في ذاته بقطع النظر عن أتباعه وبين واقع المسلمين الماثل اليوم، وعلى المسلمين أن يستفيدوا من التطورات والحضارة الجديدة بما لها وما عليها ويدرسوا تجاربهم، فلا معنى أبدا لان نتجاهل الجهود الإنسانية التي بذلت في إبداع هذه الحضارة. 

 

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…