الوسطية في القرآن الكريم إن من نعم الله على هذه الأمة وتشريفه لها أن جعلها أمة وسطًا خيارًا عدولاً فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. فهي خير الأمم التي أُخرجت للناس، وقد وصفها المولى وشهد لها بذلك فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

ثم اصطفى الله I لها رسولاً من خيارها وأوسطها نسبًا ومكانة، فبعثه فيها نبيًّا رسولاً {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وأنزل عليها أشرف كتبه وجعله مهيمنًا على الكتب قبله، شاملاً لخير ما جاءت به {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].

بهذا الرسول الكريم، وهذا القرآن الكريم، شرفت هذه الأمة وبمتابعتهما والاهتداء بهديهما، كانت خير الأمم وأوسطها وأعدلها، ثم كان أسعد هذه الأمة باتباعهما وأحرصهم على هديهما قولاً وعملاً واعتقادًا أصحاب رسول الله ثم تابعوهم، ثم التابعون لهم بإحسان من القرون الثلاثة المفضلة التي شهد لها النبي بالخيرية، قال رسولُ الله : “خيرُ أمَّتي قَرني، ثمَّ الذين يَلونهم، ثمَّ الذين يَلونهم”.

فهؤلاء هم خيار هذه الأمة، ثم يلحق بهم كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الهدى والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله في كل زمان ومكان؛ فهؤلاء جميعًا خيار هذه الأمة وأوسطها وأعدلها؛ فإنه بعد انتقال رسول الله إلى جوار ربه، ومضى عصر الخلافة الراشدة بدأ في آخر عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ظهور التفرق والاختلاف؛ فخرجت الخوارج ببدعها، وظهرت الشيعة بغلوها وفتنها، ثم توالى ظهور البدع، وتكوّنت الفرق، وتوارثت الأجيال الكثير من الانحرافات العقدية والسلوكية وغيرها، وابتعدت عن منهج الاعتدال والتوسط الذي رسمه القرآن الكريم ومارسه في الحياة سيد المرسلين.

إن المتدبر في الواقع الذي تعيشه الأمة اليوم يرى فرقًا شاسعًا في أهدافها واختلافًا في منطلقاتها وغاياتها وفي مشاربها, يرى الإفراط والتفريط والغلوّ والجفاء والإسراف والتغيّر في عموم الأمة، فإذا انتقلنا إلى حال الدعاة والمصلحين الذين أقضّ مضاجعهم هذا الواقع المؤلم لأمتهم، فإنهم شرعوا في البحث عن طريق العلاج ومعرفة أسباب النجاة، والتمسك بها لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، نجد تأثير واقع الأمة على وضعهم: فمنهم المشرّق، ومنهم المغرّب، ترى المفرّط والمُفْرط، نرى بين هؤلاء الدعاة من غالى وأفرط في الغلوّ وعادت أفكار الخوارج القديمة، وهناك من فرط وجفا، وأضاع معالم الدين وأصول العقيدة؛ حرصًا على جمع الناس دون تزكيتهم وتعليمهم الكتاب والسنة، فضاعت معالم التوحيد وحقيقة العبادة.

وبين هؤلاء وأولئك وقفت فئة تقتفي الأثر وتصحّح المنهج وتقود الناس إلى الصّراط المستقيم على منهج أهل السنة والجماعة، وسلف الأمة ينفون عن هذا الدين غلوّ الغالين، وانتحال المبطلين، وتفريط الكسالى والمرجئين، ودعاوى المرجفين الزائفين، ووسط هذا الواقع المؤلم والاضطراب المهلك تشتد الحاجة إلى إرشاد الأمة إلى الصراط المستقيم والمنهج الوسط القويم لإنقاذها من كبوتها، وإنقاذها من رقدتها، وتذكير الدعاة والمصلحين بالمنهج الحق، والطريق البيّن الواضح {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153].

إن الأمة بأمسّ الحاجة إلى منهج الوسطية منقذًا لها من هذا الانحراف الذي جلب عليها الرزايا والمصائب والنكبات، ولقد وجدت أن القرآن الكريم قد رسم لنا هذا المنهج في جميع جوانبه؛ أصولاً وفروعًا وعقيدة وعبادة وخلقًا وسلوكًا وتصورًا وعملاً.

ولقد جاء منهج الوسطية من خلال القرآن الكريم في أساليب عدة تصريحًا وإيماء، مفصلاً ومجملاً، خبرًا وإنشاء وأمرًا ونهيًا.

فبيّن القرآن الكريم أن للوسطية أسسًا لا بد للداعية من معرفتها، فمنها الغلوّ والإفراط، والجفاء أو التفريط، والصراط المستقيم.

فإن من أراد أن يعرف الوسطيّة على الوجه الدقيق فلا بد له من استيعاب الأسس التي ذكرناها، فالصراط المستقيم هو وسط بين الغلو والجفاء أو الإفراط والتفريط، كما يمثل الخيرية ويحقق معناها، وبذلك يتحقق في الصراط المستقيم أمران من لوازم الوسطية وهما: الخيرية والبينية. كما بيّن القرآن الكريم أن للوسطية ملامح وسمات تحف بها، وتميّزها عن غيرها، بمجموع تلك الملامح لا بإفرادها. وقد طالعت ما ورد في وسطية هذه الأمة بين الأمم، وكذلك ما كتبه بعض الذين بحثوا في الوسطية، ومن خلال استقراء القرآن الكريم فتوصلت إلى تحديد سمات وملامح للوسطية.

وتحديد هذه الملامح مهمة أساسية للمسلم الداعية، حتى لا تكون الوسطيّة مجالاً لأرباب الشهوات وأصحاب الأهواء؛ ذلك أن الوسطيّة مرتبة عزيزة المنال، غالية الثمن، كيف لا وهي سمة هذه الأمة، ومحور تميزها بين الأمم، جعلها الله خاصية من خصائصها تكرّمًا منه وفضلاً {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].

إن من أهمّ ملامح الوسطية وسماتها:

1- السمة الأولى: الخيرية.

2- السمة الثانية: العدل.

3- السمة الثالثة: اليسر ورفع الحرج.

4- السمة الرابعة: الحكمة.

5- السمة الخامسة: الاستقامة.

6- السمة السادسة: البينية.

وكل سمة من هذه السمات يدخل تحتها عدد من أفرادها، ولكل سمة ما يلائمها، ويفي بغرضها. ومعرفة هذه الملامح والسمات تعين الداعية على ضبط وتحديد معنى الوسطية ومعرفتها.

أسس الوسطية

إن معرفة الوسطيّة يشترط فيها توافر أمرين وهما الخيرية والبينية، وهناك أسس تعيننا على معرفة الوسطية على الوجه الدقيق وهي الغلوّ أو الإفراط، الجفاء أو التفريط، الصراط المستقيم.

أولاً: الغلو

الغلوّ: وقد عرّفه أهل اللغة مجاوزة الحد، وفي الحديث الشريف “إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ”[1]؛ أي التشدّد ومجاوزة الحد. والحديث الآخر: قال رسول الله : “إنَّ هذا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فيهِ بِرِفْقٍ”. ويُقال في اللغة: غلا السهم: ارتفع في ذهابه وجاوز المدى، وكله من الارتفاع والتجاوز. ويُقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النبت: ارتفع وعظم.

هذا معنى الغلوّ في اللغة، وقد جاءت آيتان في القرآن الكريم فيهما النهي عن الغلوّ بلفظه الصريح، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء: 171]. قال الإمام الطبري -رحمه الله-: “لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه، وأصل الغلوّ في كل شيء مجاوزة حدّه الذي هو حده، يُقال منه في الدين قد غالى فهو يغلو غلوًّا”.

وقال ابن الجوزي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: والغلو: الإفراط ومجاوزة الحد، ومنه غلا السعر. وقال: الغلوّ: مجاوزة القدر في الظلم. وغلوّ النصارى في عيسى قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم هو ابن الله، وقول بعضهم هو ثالث ثلاثة.

وقال ابن كثير: “ينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهًا من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل غلوا في أتباعه وأشياعه، ممن زعم أنهم على دينه، فادّعوا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقًّا أو باطلاً أو ضلالاً أو رشادًا، صحيحًا أو كذبًا؛ ولهذا قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31].

أما الآية الثانية فجاءت في سورة المائدة، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].

قال الطبري -رحمه الله-: “لا تفرّطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح، فتجاوزوا به الحق إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه”. قال ابن تيمية -رحمه الله-: النصارى أكثر غلوًّا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلوّ في القرآن.

وقد وردت بعض الأحاديث التي تنهى عن الغلو، وذِكْر بعضها يساعد على فهم بعض الغلوّ:

1- “عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ: “اُلْقُطْ لِي حَصًى. فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ. فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ فِي كَفِّهِ وَيَقُولُ: أَمْثَالَ هؤُلاَءِ فَارْمُوا. ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ”.

قال ابن تيمية -رحمه الله-: “وهذا عام في جميع أنواع الغلوّ في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنها أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضى مجانبة هديهم، أي هدي من كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يُخاف عليه من الهلاك”.

2- عن عبد الله بن مسعود، عن النبي قال: “ألا هلك المتنطعون” (ثلاث مرار). قال الإمام النووي: “هلك المتنطعون: أي المتعمّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم”.

3- وعن رَسُولَ الله كَانَ يَقُولُ: “لا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُم فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُم، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ الله عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ في الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ {وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27]”.

4- عنْ أبي هُرَيرةَ، عنِ النبيِّ قال: “إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاّ غَلَبَه، فسَدِّدوا وقارِبوا، وأبْشِروا، واسْتَعِينوا بالغدْوَةِ والرَّوْحةِ وشيءٍ منَ الدُّلْجة”.

قال ابن حجر -رحمه الله-: “والمعنى: لا يتعمّق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب”. وقال ابن رجب -رحمه الله-: والتسديد العمل بالسداد، والقصد والتوسط في العبادة فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه.

إن الأحاديث السابقة ترشدنا إلى أن الغلوّ خروج عن المنهج، وتعدٍّ للحد، وعمل ما لم يأذن به الله ورسوله والأحاديث التي تنهى عن الغلو كثيرة، وليس هدفي في هذا المقال حصرها، وإنما اكتفيت ببعض الأحاديث التي لها دلالة على ما نحن بصدده، وهو تحديد معنى الغلوّ ومفهومه وحكمه، ومن ثَمَّ علاقته بالوسطية.

ولعلماء المسلمين تعريفات كثيرة لمعنى الغلوّ، واخترت منها في مقالي هذا تعريفين:

أولاً: تعريف ابن تيمية -رحمه الله- الغلوّ: مجاوزة الحدّ بأن يُزاد في الشيء في حمده، أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك.

ثانيًا: تعريف ابن حجر -رحمه الله- إذ يقول: الغلو: المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد، وضابط الغلو هو تعدي ما أمر الله به، وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله تعالى: {وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81].

ومما سبق من التعريف اللغوي، وما ورد فيه من آيات وأحاديث، وكذلك من تعاريف العلماء، يتضح لنا أن الغلوّ: هو مجاوزة الحد في الأمر المشروع، وذلك بالزيادة فيه أو المبالغة إلى الحد الذي يخرجه عن الوصف الذي أراده وقصده الشارع العليم الخبير الحكيم.

وقد أفاد وأجاد الشيخ عبد الرحمن بن معلا اللويحق في إيضاح حقيقة الغلوّ وكشف حدوده ومعالمه في رسالته العلمية “الغلو في الدين”، وقسّم الغلوّ إلى أقسام:

أولاً: إن منشأ الغلو بحسب متعلقه ينقسم إلى ما يلي:

1- إلزام النفس أو الآخرين بما لم يوجبه الله عبادةً وترهبًا، ومقياس ذلك الطاقة الذاتية؛ إذ إن تجاوز الطاقة في أمر مشروع يُعدّ غلوًّا.

والأدلة على ذلك كثيرة، منها:

أ- عن أنسِ بنِ مالكٍ قال: “دَخَلَ النبيُّ فإذا حَبلٌ مَمدودٌ بينَ الساريتَينِ، فقال: ما هذا الحبلُ؟ قالوا: هذا حبلٌ لزينبَ، فإذا فَتَرَتْ تَعلَّقَتْ. فقال النبيُّ : لاَ، حُلُّوهُ، ليُصلِّ أحدُكم نشاطَهُ، فإذا فترَ فلْيَقعُدْ”.

قال ابن حجر -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث: وفيه الحثّ على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق فيها.

ب- تحريم الطيبات التي أباحها الله على وجه التعبّد، أو ترك الضرورات أو بعضها، ومن أدلة ذلك قصة النفر الثلاثة.

روى أنسَ بن مالكٍ يقول: “جاء ثلاثةُ رَهْطٍ إلى بيوتِ أزواج النبيِّ يسألونَ عن عبادةِ النبيِّ ، فلما أُخبروا كأَنهم تَقالُّوها، فقالوا: وأينَ نحنُ منَ النبيِّ ؟ قد غَفر اللهُ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ وما تأخَّر. قال أحدُهم: أما أنا فأنا أصلِّي الليلَ أبدًا. وقال آخر: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطر. وقال آخر: أنا أعتزِلُ النساء فلا أتزوَّجُ أبدًا. فجاء رسولُ الله فقال: (أنتُم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني)”.

وكذلك لو اضطر مسلم إلى شيء محرّم، كأكل حيوانٍ محرّم أو ميتة، وترك ذلك يؤدي به إلى الهلكة، فإن ذلك من التشدد، وبيان ذلك: إن الله هو الذي حرّم هذا الشيء في حالة اليسر، وهو سبحانه الذي أباح أكله في حالة الاضطرار، قال سبحانه: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].

2- أن يكون الغلوّ متعلقًا بالحكم على الآخرين؛ إذ يقف مع بعض الناس موقف المادح الغالي، ويقف مع آخرين موقف الذام الجافي، ويصفهم بما لا يلزمهم شرعًا, كالفسق أو المروق من الدين ونحو ذلك، وفي كلا الحالين يترتب على ذلك أعمال هي من الغلوّ؛ كالحب والبغض، والولاء والهجر، وغير ذلك.

ثانيًا: إن الغلوّ في حقيقته حركة في اتجاه الأحكام الشرعية والأوامر الإلهية، ولكنها حركة تتجاوز في مداها الحدود التي حدّها الشارع، فهو مبالغة في الالتزام بالدين، وليس مروقًا عنه في الحقيقة، بل هو نابع من القصد بالالتزام به.

ثالثًا: إنّ الغلوّ ليس هو الفعل فقط بل قد يكون تركًا، فترك الحلال كالنوم والأكل ونحوه نوع من أنواع الغلو، إذا كان هذا الترك على سبيل العبادة والتقرب إلى الله، كما يفعل بعض الصوفية والنباتيين.

رابعًا: الغلوّ على نوعين: اعتقادي وعملي. الاعتقادي على قسمين: اعتقادي كلي، واعتقادي فقط.

والمراد بالغلوّ الكلي الاعتقادي: ما كان متعلقًا بكليات الشريعة وأمهات مسائلها.

أما الاعتقادي فقط، فهو ما كان متعلقًا بباب العقائد دون غيرها، كالغلوّ في الأئمة وادّعاء العصمة لهم، أو الغلو في البراءة من المجتمع العاصي، أو تكفير أفراده واعتزالهم.

ويدخل في الغلو الكلي العملي: الغلو في فروع كثيرة؛ إذ إن المعارضة الحاصلة به للشرع مماثلة للمعارضة الحاصلة بالغلوّ في أمر كلي.

أما الغلوّ الجزئي العملي، فهو ما كان غلوًّا في جزئية من جزيئات الشريعة، ومتعلقًا بباب الأعمال دون الاعتقاد, فهو محصور في جانب الفعل، سواء أكان قولاً باللسان أم عملاً بالجوارح.

والغلوّ الكلي الاعتقادي أشدّ خطرًا، وأعظم ضررًا من الغلوّ العملي؛ إذ إن الغلوّ الكلي الاعتقادي هو المؤدي إلى الشقاق والانشقاق، وهو المظهر للفرق والجماعات الخارجة عن الصراط المستقيم، وذلك كغلوّ الخوارح والشيعة.

خامسًا: ليس من الغلوّ طلب الأكمل في كلية العبادة، بل يدخل في تحديد الأكمل أمور عدة تتعلق بالعمل، وبمن قام بالعمل، وكذلك من له صلة بهذا العمل.

فالصدقة -مثلاً- يُراعى فيها: المتصدِّق والمتصدَّق عليه، والمال المتصدَّق به، ولا يسمى كمالاً كليًّا بالنظر للكمال الجزئي. ذكر ابن حجر -رحمه الله-: “ما يؤيد هذا المعنى ونسبه إلى ابن المنير فقال: وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوّع المفضي إلى ترك الأفضل”.

سادسًا: إن الحكم على العمل بأنه غلو، أو أن هذا المرء من الغلاة، باب خطير، لا يقدر عليه إلا العلماء الذين يدركون حدود هذا العمل، وتبحّروا في علوم العقائد وفروعها؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فقد يكون الأمر مشروعًا يوصف صاحبه بالغلو والتطرف والتزمت ونحوها، ولذلك فإن المعيار في الحكم على الأعمال والأفراد والجماعات هو الكتاب والسنة، وليست الأهواء والتقاليد والأعراف والعقول، وما تعارف عليه الناس، وقد ضلّ في هذا الباب أمم وأفراد وجماعات.

وبعد أن اتضح لنا معنى (الغلوّ) لغة وشرعًا، وما يتعلق به من معانٍ وأقسام، سأوضح معنى (الإفراط) بإيجاز، حيث ستتضح صلته بالغلو.

ثانيًا: الإفراط

الإفراط لغة هو: التقدّم ومجاوزة الحدّ. قال ابن فارس: يُقال: أفرط: إذا تجاوز الحد في الأمر، يقولون: إياك والفرط، أي لا تجاوز القدر، وهذا هو القياس؛ لأنه إذا جاوز القدر فقد أزال الشيء عن وجهته.

وقال الجوهري: “وأفرط في الأمر: أي جاوز فيه الحد”.

والفُرطة -بالضم- اسم للخروج والتقدم، ومنه قول أم سلمة لعائشة رضي الله عنهما: “إن رسول الله نهاك عن الفرطة في البلاد”. وفي رواية: نهاك عن الفرطة في الدين (يعني السبق والتقدم ومجاوزة الحد).

والإفراط: الإعجال والتقدم، وأفرط في الأمر: أسرف وتقدم، وكل شيء جاوز قدره فهو مفرط. قال تعالى: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 45].

قال الطبري -رحمه الله-: “وأما الإفراط فهو الإسراف والإشطاط والتعدي، يُقال منه أفرطت في قولك، إذا أسرف فيه وتعدى، وأما التفريط فهو التواني، يُقال منه: فرطت في هذا الأمر حتى فات، إذا توانى فيه”. ونخلص مما سبق أن معنى الإفراط: تجاوز الحد، والتقدم عن القدر المطلوب، وهو عكس التفريط.

وقد تبين مما سبق من تعريفي الغلوّ والإفراط أن كلاًّ منهما يصدق عليه: تجاوز الحد، وقد فسّر الغلو بالإفراط كما سبق، وإن كل واحد منهما يحمل معنى أبلغ من الثاني في بعض ما يستعمل فيه؛ فالذي يشدّد على نفسه بتحريم بعض الطيبات، أو بحرمان نفسه منها، فوصف الغلوّ ألصق به من الإفراط، والذي يعاقب من اعتدى عليه عقوبة يتعدى بها حدود مثل تلك العقوبة، فوصف الإفراط ألصق به من الغلوّ، وهكذا. والذي يهمنا في هذا المقال أن كلاًّ من الغلو والإفراط خروج عن الوسطيّة؛ فكل أمر يستحق وصف الغلوّ أو الإفراط، فليس من الوسطيّة في شيء.

د. علي الصلابي

المصدر: موقع طريق الإسلام.

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…