في هندسة البناء السياسي العربي الجديد

لا شك أن السمة الغالبة على أوضاع المنطقة في مطلع السنة الجديدة هو انهيار نموذج الدولة الوطنية العربية من الداخل وتفكك بنية النظام الإقليمي العربي، في مرحلة أصبح وجود العرب السياسي والاستراتيجي

في خطر محدق لا يمكن تجاهله أو السكوت عليه.

ما يجري في العراق وسوريا ولبنان وليبيا والسودان واليمن ليس مجرد أزمات ظرفية انتقالية، وإنما تحطم كلي لكيان الدولة التي أثبتت عجزها عن تسيير واستيعاب مصاعب التحول الداخلي التي تعرفها كل الدول في العالم، بحيث بدا من الجلي أن الحل لا يكمن في مجرد عقد صفقات توافقية بين الفاعلين السياسيين الذين تحولوا- أو هم في طور التحول- إلى ميليشيات مسلحة، وإنما مراجعة هندسة البناء السياسي بكامله في بعديه المحلي والإقليمي، قبل أن تقرر المصائر من الخارج.

ودون الخوض في المعطيات التاريخية البعيدة، نذكر بأن الهويات الوطنية في عموم البلدان العربية تشكلت في سياق الهندسة السياسية للدولة الحديثة في جذورها النيوكوليانية

(أي المتولدة عن الاستعمار الأوروبي)، حتى في ما يتعلق بالكيانات التي كان لها نمط من الاستقلال النسبي أو الكامل عن الخلافة العثمانية، أو تلك التي لها إرث طويل في السلطة المركزية.

وإذا توقفنا عند الحالتين المصرية والمغربية، وهما البلدان الأكثر عراقة من حيث إرث الدولة المركزية بمعنى الجهاز الإداري والعسكري، نلمس أن فكرة الهوية الوطنية بالمعنى الحديث للعبارة هي نتاج مزدوج للحقائق المحلية، التي كرستها الإدارة الاستعمارية ولخطاب وأيديولوجيا الحركة الوطنية، التي قاومت الاستعمار وورثت دولته.

وعلى عكس الصورة السائدة، لم يكن القائد الإصلاحي الكبير «محمد علي» الذي أسس نهضة مصر الحديثة زعيماً وطنياً، بل كان مصلحاً عثمانياً، ولئن كان انتزع لمصر استقلالاً فعلياً عن الأستانة، إلا أن الأفق الذي كان يصدر عنه في مشروعه السياسي هو نفس الأفق الإسلامي الذي أراد ترجمته ببناء إمبراطورية بديلة عن الخلافة العثمانية. ومن هنا أمكن القول إن النزعة الوطنية المصرية التي تبلورت بوضوح لدى النخبة الليبرالية في بدايات القرن العشرين وانتظمتها الحركة الوفدية كانت في جانب منها استبطاناً لخطاب الحملة النابليونية (النزعة الفرعونية)، وفي جانب آخر منها أثراً لتيار المقاومة المتأثر بالأيديولوجيات القومية الأوروبية.

برزت هذه النزعة بوضوح لدى طه حسين في طرحه لهوية مصرية خصوصية منفصلة عن الشرق وضاربة الجذور إلى الأصول الفرعونية تستنسخ نموذج الدولة القومية الأوروبية الحديثة (مستقبل الثقافة في مصر)،كما برزت لدى «أحمد لطفي السيد»، وهو أحد أبرز وجوه الإصلاح الفكري والسياسي الذي اعتبر أن الرابطة الدينية فكرة استعمارية متجاوزة طارحاً شعار «مصر للمصريين، والمصري هو الذي لا يعرف له وطناً آخر غير مصر».

وفي الحالة المغربية، يبين عبد الله العروي أن النزعة الوطنية المغربية التي تشكلت في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت في أساسها بناء أيديولوجياً للنخب الإصلاحية وحركة المقاومة التي تحالفت منذ الأربعينيات مع العرش، فهي في جانب منها مواجهة لخطاب الاستشراف الاستعماري حول ثنائية العرب والبربر، وفي جانب آخر منها مراجعة للنموذج السلطاني التقليدي الذي لا يمكن النظر إليه بمعايير الدولة الإقليمية السيادية الحديثة.

يمكن تعميم هذا الحكم على كل النزعات الوطنية التي قامت في البلدان العربية بعد تشكل الكيانات الوطنية الحديثة. وهكذا ظهرت أدبيات أيديولوجية واجتماعية سعت إلى تأسيس تاريخي ونظري للوطنية الخصوصية، نشير من بينها إلى أعمال عالم الاجتماع العراقي «علي الوردي» حول الشخصية الوطنية العراقية، وأعمال عالم الجغرافيا المصري «جمال حمدان» حول الشخصية المصرية وكتابات «أنطون سعادة» حول الشخصية السورية.

وقد بلغت النزعة الوطنية أوجها في خطاب الزعيم التونسي «الحبيب بورقيبة»، الذي لم يتردد في الحديث عن «الأمة التونسية» المستقلة في شخصيتها القومية عن العرب، ذات الأصول القرطاجانبة الفينيقية، معتبراً أن مصلحة تونس هي الارتباط بالغرب بدلاً من المحيط العربي.

ما بينته معضلة الدولة العربية اليوم هو أن النموذج الوطني الذي ينيط الاعتبارات السيادية بالمجال الإقليمي المحلي ويحدد الأطر التمثيلية للجسم السياسي في حدود هذا المجال، أثبت بوضوح عجزه عن بناء مجموعة سياسية متعاضدة ومستقرة.

لقد أثبتت حقائق التداخل البشري والجغرافي وارتباط المصالح الجيوسياسية أن هندسة البناء السياسي في المنطقة العربية تقتضي الانتقال من نموذج السيادة الأحادية المطلقة ضمن إقليم وطني كامل الاستقلال إلى نمط من البناء السياسي الجديد بدوائر سيادية متعددة وأشكال من التمثيل متنوعة انسجاماً مع واقع قائم. فلا مناص من الاعتراف بأن الدول الإقليمية العربية كلها أصبحت أطرافاً فاعلة في الأوضاع الداخلية لبلدان المشرق العربي المتأزمة، كما أن المجموعة الخليجية تجد نفسها معنية مباشرة بمجريات الأوضاع في اليمن والعراق، وتستشعر الحاجة الحيوية إلى الانتقال من طور التعاون إلى طور الاتحاد.

كانت الفيلسوفة الألمانية- الأميركية «حنة أرنت» قد نبهت إلى أن النموذج السيادي للدولة الوطنية هو نتاج تصور السلطة السياسية بصفتها هيمنة مطلقة، أي إكراهاً شرعياً مما يعني النظر إلى المجموعة السياسية في شكل الكتلة المغلقة التي لا يمكن أن تمارس حريتها الجماعية إلا ضمن قيود مجال إقليمي ضيق تضبطه قوانين مشتركة، في حين أن النشاط السياسي الحقيقي يتأسس على التعددية والانفتاح أي على المواطنة المفتوحة التي لا تنحصر ضرورة في نمط واحد من البناء الإقليمي.

يتعلق الأمر هنا بدوائر متعددة للانتماء تجمع بين الرباط الوطني الضيق الذي لا سبيل لتجاوزه،وقد أصبح حقيقة محصنة بالمصالح المكتسبة والرباط القومي الواسع، الذي لا مناص من الاعتراف به،ويتعين التفكير في إبداع مفاهيمه النظرية وأدواته المؤسسية التي تتجاوز الإطار الشكلي للجماعة العربية،مما سنبينه لاحقاً.

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…