المشاريع الفكرية العربية في ظل الحراك المجتمعي
القاهرة: عبد العزيز بومسهولي -1
لقد انتابني شعور بالتردد والحيرة، واستبد بي إحساس بالقلق كاد يثنيني عن السفر إلى مصر تلبية لدعوة الجمعية الفلسفية المصرية لحضور مؤتمرها الرابع والعشرين أيام 7-8-9 بجامعة القاهرة و10-11-12 بالمركز السويدي بالإسكندرية، وذلك في إطار بحث أنجزه تحت إشراف «المجلس العربي للعلوم الاجتماعية «ومقره ببيروت حول «الفلسفة والحراك العربي» وهو البحث الذي يندرج ضمن فريق «إنتاج العام» الذي يترأسه البروفيسور «طارق صبري « المحاضر بجامعة «وستمنستر» ببريطانيا.
ولعل مرد هذا الشعور بالتردد والقلق إنما يعود إلى سيل من الصور والتغطيات الإخبارية على شاشات بعض كبريات الفضائيات العربية والتي تختص بتغطية الحدث المصري، وخِلْتُني وأنا أتابع هذه الفضائيات بأني سأقدم على مغامرة غير محسوبة العواقب في أرض شوارعها مشتعلة لا تكاد تهدأ من الاضطرابات والقلاقل، والاحتجاجات الطلابية، لاسيما وأن مؤتمر الجمعية الفلسفية سينعقد بجامعة القاهرة التي تشهد اضطرابات غير مسبوقة وتوقفا عن الدراسة حسب تقارير الفضائيات، لكني وبعد تأنٍ وتفكير هادئ، وبعد اطلاع على ارتسامات الوفد الصحافي المغربي الذي زار القاهرة خاصة ارتسامات صديقنا لحسن لعسبي عزمت على السفر، ولأن المهمة المنوطة بي كذلك تقتضي أيضا متابعة ميدانية للحراك الفلسفي في بلدان الربيع العربي. أول ما استوقفني وأنا أمتطي سيارة الأجرة التي أقلتني من مطار القاهرة على الساعة العاشرة والنصف ليلا باتجاه دار الضيافة القديمة المجاورة لمدينة الطلاب المقابلة للقبة الشهيرة لجامعة القاهرة/ الجيزة، هو مظهرلايوحي بتاتا بما نستهلكه من مشاهد وصور متوالية تدل على ظروف استثنائية محفوفة بالعقبات والاصطدامات بل تدل المشاهد الحية على حياة عادية مفعمة بالحركة الذائبة ، وهو ما أعطاني شعورا بالطمأنينة والارتياح باستثناء تلك الإجراءات الأمنية الصارمة داخل المطار والتي يخضع فيها كل الوافدين الأجانب إلى فحص دقيق يستغرق ما يزيد عن 30 دقيقة قد تلج بعد اتمامها ارض الكنانة او تعود من حيث قدمت، وهو ما يعتبر اجراء احترازيا وأمنيا في هذه المرحلة الانتقالية حسب تبرير المسؤولين. تشهد شوارع القاهرة ليلا حركة ذؤوبة، وسيلا لا يكاد ينقطع من السيارات، وميادين حافلة بالراجين،وهو شيء لا يؤكد أن ثمة اضطراب أو حالة ترقب، على خلاف ما كنت أتوقعه من إقامة للحواجز الأمنية على كافة مداخل الشوارع الكبرى. وطيلة الأيام التي قضيتها رفقة زملائي العرب -خاصة اشقاءنا الجزائريين- سواء بالقاهرة أو بالاسكندرية تجعلك متيقنا من أن ما تشاهده على شاشات فضائيات عربية وأجنبية ليس إلا أحداثا افتراضية، وليست أحداثا واقعية،اقصد ان الشارع المصري في عمومه منهمك في اشغالاته بكيفية حيوية. والحقيقة أن ثمة في محيط بعض الجامعات احتجاجات لكنها ليست بالصورة التي يتم تقديمها للمشاهدين في العالم الذين تترسخ لديهم صورة مغايرة عن الواقع. وطيلة الأيام الممتعة التي عشناها هناك لم نترك أية فرصة بعد انتهاء أشغال جلسات المؤتمر المكثفة من النزول لاكتشاف بعض أحياء القاهرة ليلا الجيزة، خان الخليلي، السيدة زينب، شارع سوريا، ميدان طلعت حرب الخ… نفس الأمر يتعلق بالإسكندرية وهي المدينة التي صادف وجودنا فيها هطول أمطار عاصفة لكنها لم تحل دون استمتاعنا بفضاءاتها الجميلة والرائعة. في جامعة القاهرة- مبنى كلية الآداب- تبدأ جلسات المؤتمر مع الساعة العاشرة وتستمر بدون انقطاع إلى الساعة الخامسة ما عدا فترة وجيزة للاستراحة على الساعة الثانية عشرة والنصف. وقد شهدت الأيام الثلاثة التي قضيناها في رحاب هذه الجامعة حضورا مكثفا ومتابعة دقيقة سواء من طرف الأساتذة المشاركين أو من طرف طلبة قسم الفلسفة ومن المهتمين أيضا. وهو ما يعني بالنسبة للمتتبع أن الحياة الفكرية في مصر رغم شيخوختها، تسترد حيويتها ومواكبتها للحدث العربي، ففي مارس 2010 قبل الثورة عقدت جمعية الفكر العربي التي يترأسها المفكر أحمد عبد الحليم عطية مؤتمرها الثاني حول الفلسفة وحقوق الإنسان، وهو المؤتمر الذي واكبناه أيضا، أما بعد الثورة فعقدت الجمعية الفلسفية المصرية مؤتمرها الثاني والعشرين حول الفلسفة والثورة. أما المؤتمر الرابع والعشرون لهذه السنة فموضوعه هو المشاريع الفكرية العربية المعاصرة. وقبل أيام فقط عقد قسم الفلسفة بكلية آداب القاهرة الذي يترأسه المفكر مصطفى النشار مؤتمرا بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة تحت شعار «الفلسفة والمستقبل» كما أن الجمعية الفلسفية المصرية تحت إشراف الفيلسوف حسن حنفي فتعقد ندوات فلسفية في بداية كل شهر وهذا يعني أن الحراك الفلسفي العربي عامة والمصري على الخصوص يمضي بكيفية حثيثة لمواكبة حدث الحراك المجتمعي، وهو ما فرض عليه تحديات جديدة لمواجهة إشكالات مغايرة مرتبطة بالتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية والتي تجعل مهمة المتفلسف اليوم أمام مسؤولية تاريخية تقتضي استئناف النظر في المابعد، ما بعد الثورات، ما بعد المشاريع، ما بعد التجارب الوطنية التي أفرزت حراكا غير مسبوق،حراكا يعيش مخاضات ما زالت لحد الآن غير واضحة المعالم. لكن تبقى مهمة الفيلسوف مع ذلك مرتبطة بمدى مساهمته كمثقف مسئول في بناء أفق مدني للذاتية العربية المشتركة داخل الفضاء العام للإنسانية. وهذا ما نستشعره حقا ونحن نتابع حرص الفيلسوف حسن حنفي على عقد المؤتمر في موعده السنوي، وعلى السهر على تسيير أشغال الجسات الفكرية، بالرغم من إعاقته بسبب المرض، ومتابعته الدقيقة لكل المداخلات ومساهمته في توجيه النقاش الفكري حول المشاريع الفكرية المعاصرة، والحال أن نموذج حسن حنفي ينبغي أن يكون ملهما للمتفلسف العربي الذي يجد تأسيس حياة فلسفية جديرة بما بعد الربيع العربي، أي جديرة بالإنسان العربي. -2
وقد تميزت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر التي ترأسها الفيلسوف المصري حسن حنفي السكرتير العام للجمعية الفلسفية المصرية بكلمات تعاقب على إلقائها كل من رئيس قسم الفلسفة بكلية آداب القاهرة د مصطفى النشار الذي أكد على العلاقة الوطيدة بين المشروع الفلسفي واستشراف أفق المستقبل، مبينا أن حركة المشروع الفكري ليست غايتها الإقامة في تراث الماضي بقدر ما تكون غايتها التفكير في مستقبل المشروع النهضوي العربي. ومن ثمة فالفلسفة بحد ذاتها مشروع لتأسيس مستقبل وجود الانسان العربي في العالم.
أما عميد كلية آداب القاهرة «معتز السيد عبد الله» فقد ركز في كلمته الموجزة على دلالة احتضان كلية الآداب لمؤتمر فلسفي هام بحضور نوعي من كافة البلاد العربية. ويرى أن لحظة التفكير في المشاريع الفكرية العربية الآن هي لحظة مميزة ستمكننا من النظر في أسس وغايات هذه المشاريع البانية لأفق الفكر الفلسفي العربي. في ذات السياق ربط رئيس الجمعية الفلسفية المصرية محمود حمدي زقزوق (وزير أوقاف سابق) بين المشاريع الفكرية ويقظة الوعي العربي، واعتبر أن دور المشاريع العربية يتمثل في تمكين العقل من أجل أن يؤدي دوره الكامل في الحياة، وبالتالي خلق الثورة الثقافية الشاملة التي من شأنها تحرير الفكر من العجز والتبعية والإسهام في تنمية الحياة وإثرائها. وأوضح رئيس جامعة القاهرة د جابر نصار في كلمته أن دور المشروع الحضاري والفكري إنما يتمثل في إعادة تنمية وهيكلة العقل العربي، وأن أصالة المشروع الفكري تتميز بتفكيرها الجاد والمستقل والمتفاعل بتجارب الآخرين. ومن ثمة فالمشروع الفكري هو مشروع يعيد الاعتبار للعقل، فبالعقل تقدمت الشعوب، وتخلفنا نحن العرب بتخلينا عن العقل، ولذا فإن المجتمع العربي لن يتغير إلا بالفكر. ومن ثمة على الجامعات أن تقوم بدورها التنويري، فتخرج من قاعات الدرس إلى الساحات والميادين. بقدر ما يظل الفكر منطويا على ذاته بقدر ما يكون مفصولا عن مهمته التنويرية والتي تقتضي منه أن يمارس تأثيره على حياة المجتمع. انطلقت جلسات المؤتمر بمحاضرة افتتاحية ألقاها الفيلسوف حسن حنفي تحت عنوان: المشاريع العربية المعاصرة من قبل ومن بعد. وتميزت بأرضيتها المحددة للمفهوم والنشأة والمستقبل. في البداية اعتبر حسن حنفي أن الفلسفة ليست درسا بل هم ومشروع، وأن المشروع يتميز بنسقيته وببنائه المعماري الذي يتكون من عدة طوابق على نحو مشروع نقد العقل عند كانط وسبينوزا وهيجل وعلى نحو المشاريع العربية التي ظهرت عقب هزيمة 1967 عند حسن حنفي والجابري وطيب تيزيني وحسين مروة وآخرين. وأشار صاحب مشروع «التراث والتجديد» – باعتباره شاهدا على الحياة الفلسفية العربية لأكثر من أربعة عقود وهي حياة حافلة بالمشاريع الكبرى كمشروع نقد العقل العربي للجابري، أو مشروع التاريخانية والايديولوجيا المعاصرة للعروي، ومشروع «من التراث إلى الثورة» لتيزيني، والنزاعات المادية لحسين مروة، بالإضافة إلى مشروع نقد الفكر الديني عند نصر حامد أبو زيد ? الى ضرورة التفكير من جديد في الآفاق التي فتحتها هذه المشاريع للفكر العربي من أجل ان يساهم في نهضة الامة العربية. وتساءل حسن حنفي في معرض حديثه عن المشاريع العربية عن المابعد: فماذا بعد هذه المشاريع؟ هل أثرنا في النهوض العربي. هل أثرنا في انتفاضات 1977؟ هل أثرنا في ثورة يناير 2011؟ وهل نستطيع أن نقيل الفكر من تعثراته؟ وماذا نفعل أمام صعود الحركة السلفية؟ إن الأمر يتعلق بقدرة الفلسفة على التنظير المباشر للواقع دون أن تكون فقط تعاملا مع النصوص القديمة أو الحديثة، فإذا اقتصرت الفلسفة على أن تكون تعاملا مع النص فإنها تظل خاضعة لعلوم التأويل، نصا على نص دون إبداع نص جديد. يتطلب الأمر بالنسبة لحسن حنفي نوعا من الجرأة والشجاعة التي يجب أن يتحلى بها الفكر الفلسفي العربي لمواجهة الأزمة وعدم الهروب منها بتغطية الواقع بسطح خارجي من المنقولات القديمة أو الحديثة التي لا تجد لها نبتا. ثمة أسئة جديدة تواجه الجيل الحالي وهي أسئلة مرتبطة بتحولات الربيع العربي. ومن ثمة هل بالامكان التساؤل عن مشاريع بعدية تعبر عن هذا الواقع الجديد؟ -3
تمحورت الجلسات الفكرية التي شهدتها قاعة مؤتمرات كلية آداب القاهرة إلى ثمانية محاور أساسية وهي على التوالي: نقد الفكر الديني، الوعي التاريخي العربي، نقد العقل العربي، المشاريع ونظرية المعرفة، العلم والمشاريع العربية المعاصرة، الوعي الحضاري، المشاريع العربية والمشروع الإصلاحي. أما محور الجلسة الأخيرة فكان موضوعه على صيغة السؤال التالي: هل أثرت المشاريع العربية المعاصرة في الربيع العربي.
وبالمقابل شهد المعهد السويدي بالإسكندرية نقاشا فلسفيا توزع بدوره إلى ثمانية محاور وهي التالية: الحركة النسوية بين العالم الإسلامي والغربي، بعض المشاريع النسوية: المرنيسي ? سلوى بكر- الحركة النسوية بين التراث والتجديد، بعض الحركات النسوية التمثيلية، هل هناك حركات نسوية إسلامية؟ هل للحوار مجالا؟ الربيع العربي وتحولاته(1) هل أثرت الثورات في الحركات النسوية؟ وهل أثرت الحركات النسوية في الثورات العربية؟، الربيع العربي وتحولاته(2) واقع وآفاق السلطة السياسية في ظل الثورات العربية. وإذا كانت جلسات جامعة القاهرة متسمة بطابعها البحثي والذي قدم من خلاله الباحثون والمفكرون العرب أوراقا بحثية حو المشاريع العربية المعاصرة تلتها نقاشات فلسفية مستفيضة، فإن أغلب جلسات المعهد السويدي بالاسكندرية كانت عبارة عن حوارات مفتوحة ترأسها الفيلسوف حسن حنفي وأدارها بأسلوبه السقراطي الذي يولد متعة النقاش والحوار البناء، وقد ارتأينا في هذه التغطية أن نشير بعجالة إلى محاور الجلسات تجنبا للإطناب. بقي أن نشير إلى أن المشاركة الجزائرية في المؤتمر كانت الأقوى من حيث عدد المشاركين رغم غياب بعض الباحثين ، فقد حضر من الجزائر الشقيقة، كل من عبد القادر بلعالم، عبد الحليم بلواهم، جمال شعبان، جيلالي بوبكر الطاهر، لقوش علي، سهيلة ميمون، مصطفى بلبولة وأمينة لزرق، ولم يشارك من المغرب سوى عبد العزيز بومسهولي، أما من السودان فقد شارك كل من بكري خليل، وأشرف عثمان محمد، ، ومجدي عز الدين، ومن الأردن أيمن الحجاوي، ومن العراق مصطفى مرشد، ومن ايطاليا جوزيي سكاتولين، ومن فلسطين محمد بامية. وبالطبع عرف المؤتمر حضورا قويا للباحثين والمفكرين المصريين: مصطفى النشار، أحمد عبد الحليم عطية، السيد رزق الحجر، هاني المرعشلي، ماهر عبد المحسن، أحمد حسن أنور، هيثم السيد، محمد السيد، محمد صالحين، أيمن فؤاد، عصمت نصار، غيضان السيد علي، أميرة سامي، علي مبروك. ما يمكن استخلاصه من هذا المؤتمر الهام الذي ينعقد في ظل شروط جديدة يعيشها العالم العربي هو أن الحراك الفكري لا ينفصل عن الحراك الاجتماعي، فالتفكير في المشاريع الفكرية العربية هو مساهمة في بناء مشروع مجتمعي عربي يحقق للكينونة العربية شروط تفتحها على العالم. ومن ثمة فالفلسفة العربية اليوم مدعوة إلى الانخراط بكيفية فعالة في المحيط الاجتماعي، تأسيسا لأفق رحب يستجيب لنداء الكينونة العربية، لنداء مصيرها التاريخي، أي لنداء الحرية. وبالتالي فإن المسؤولية الأساسية المنوطة بالفلسفة العربية اليوم تجعل مهمتها عملية أي أن تنفتح على الحياة الإنسانية في بعدها الاجتماعي. وهذه المهمة هي التي جعلت أغلب المؤتمرين في نقاشهم المفتوح بالإسكندرية يقترحون موضوع: الفلسفة والربيع العربي ليكون محورا للمؤتمر الفلسفي المقبل. (هامش ) صادف اليوم الاخير من المؤتمر احتفالية خاصة بمدينة القاهرة ، دعيت اليها بمناسبة حصول الشاعرة ميسون صقر القاسمي على جائزة كفافيس الدولية وهي من أهم الجوائز التي تعنى بالشعر والإسهامات النوعية لشعراء العالم ، و قد حضر هذه الامسية نخبة من المبدعين والكتاب المصريين من بينهم الروائية فاطمة قنديل ومحمد بدوي رئيس تحرير مجلة فصول ورؤساء تحرير بعض الصحف والمجلات الثقافية . حقا ثمة حياة ثقافية يعيشها المبدعون كتابا وفنانين وكذا المفكرون المصريون يمارسون من خلالها فن عيشهم الذي يقاوم تبلد المشاعر وتحجر العقل الناتج عن التعصب والانغلاق المذهبي. |
||
12/28/2013 |
الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي
على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…