مصادر المعرفة الإسلامية: النص.. الواقع.. العقل

 بقلم ..يحيى محمد

 موقع فهم الدين

النص

عادة ما يُقصد بالنص اللغوي بأنه كلام مكتوب، وبالخطاب بأنه قول مشافه. واستناداً إلى هذين المعنيين فإن النص هو نوع من الخطاب الموجّه، وأن الخطاب هو نوع من النص الموجّه أيضاً، لكن ما يميز بينهما هو أن الأخير عبارة عن قول يتصف بسياقين: دلالي وظرفي، وهو من هذه الناحية يختلف عن النص الناجز الذي يختص بسياق واحد فقط هو السياق الدلالي، بإعتباره يتجرد عن السياق الظرفي وإن دلّ عليه. ومن هذه الناحية جاز للخطاب أن يتحول إلى نص من دون عكس. والخطاب ما أن ينتهي إلا ويفقد سياقه الظرفي، فوجوده ملازم لهذا السياق، وهو ما يهبه حيوية ودلالة أعظم من تلك التي للنص، فهو الأصل الحامل للحقيقة. لكن ما يعوّض النص عن هذا الضعف من الحيوية والدلالة هو إنفتاحه على التأويل أو (الهرمنوطيقا) بما لا يقارن مع الخطاب[1].

وبعبارة مجملة، يتميز الخطاب عن النص بحمله لدلالة الحقيقة، خلافاً للنص الحامل لدلالة التأويل والهرمنوطيقا.

وكثيراً ما نسمي النص الديني بالخطاب لإعتبارين: أحدهما أن النص الديني كوثيقة مدوّنة (المصحف القرآني مثلاً) مسبوق بالخطاب الذي يطلق على الكلام المشافه عادة. فأصل النص مستمد من الخطاب لا العكس. أما الاعتبار الثاني فهو أن الخطاب الديني باعتباره مشافهاً فإنه يتضمن من المعاني الحقيقية ما يفتقر إليها النص المدوّن. إذ لا يتجرد الخطاب عن ملابساته الظرفية ومقتضياته الحالية تبعاً لتفاعله مع الواقع الذي تنزّل فيه، مما يجعله حاملاً للحقيقة خلافاً للنص المجرّد عن الواقع بعد أن صار وثيقة مدوّنة وغاب عنه الواقع أو انتهى، وكل ذلك له انعكساته السلبية على الفهم، إذ الفهم القائم على النص هو فهم ضعيف مقارنة بذلك القائم على الخطاب، وإن كان في القبال أنه يتمتع بالإنفتاح بلا حدود على مرّ الأجيال التي لم تعاصر تلقايته وتجلياته المباشرة عبر الخطاب، وهو ما يرضي أصحاب النزعات التأويلية والرمزية، كما ويرضي أصحاب النزعات الأدبية وفن القراءة والتلقي. أما الذين يبحثون عن المعنى المطابق والقصد الموضوعي عبر اللغة وسياقاتها وقرائنها الداخلية والخارجية فإنهم يدركون بأن النص في هذه الحالة لا يفي بالمطلوب كما يفيه الخطاب، وبالتالي كان الأخير مفضلاً عندهم مقارنة بالنص.

إذاً الخطاب هو الأصل، سواء من حيث السبق التاريخي، أو بإعتبار حمله للحقيقة التامة، أما النص فهو التابع والظل الذي ليس بمقدوره الكشف عن كافة تجليات الحقيقة التي يتمتع بها الأول.

لكن بغض النظر عن التفرقة بين النص والخطاب عموماً، أنه من حيث التخصيص نقصد بالنص أو الخطاب الديني هو ذلك التنزيل المتخذ سياقاً لغوياً خاصاً. أو هو لغة تحكي معنى الوحي والتنزيل، وهو ذاته عبارة عن الخطاب عندما كان مشافهاً ضمن سياقه الظرفي. فهو خطاب الله، ومن بعده خطاب النبي (ص) كما لدى أهل السنة، أو بإضافة الأئمة (ع) من ذريته كما عند الشيعة. لكن حيث أن خطاب النبي والأئمة ما هو إلا تبيان وتفسير للخطاب الإلهي؛ لذا فالمقصود به أساساً هو القرآن الكريم بإعتباره كلام الله بالذات. فالقرآن خطاب لغوي موحى إلى صدر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهو وإن كان منزلاً من صاحب العزة والجلالة، ورغم أنه عبارة عن كلام الله، الأمر الذي يميزه عن سائر كلام البشر، إلا أنه مع ذلك لم يفارق ملابسات الألفاظ والعبارات الدارجة بكل ما تحمله من معاني عرفية وثقافة سائدة في مكان وزمان محددين، وبكل ما تتضمنه من فكر لا يتعالى غالباً عن فهم وإدراك الجماعة التي خوطبت به مباشرة. فالنص بهذا الإعتبار خطاب يتصف بنوع من الإزدواج، ذلك أن مصدره علوي مجرد عن الواقع بما يحمله من معاني الوحي، لكنه من جانب آخر ملابس للواقع كل الملابسة. فهو من حيث كونه تنزيلاً لم يعد مجرد وحي سماوي يحمل صفات التجريد، بل أضحى خطاباً يتذرع بالواقع ليتخذ منه مسلكاً للغاية التي أُنزل لأجلها. لذلك نزل بلغة بشرية لها معاني مشخصة في بيئة محددة هي البيئة العربية بكل ما تحمله من ظروف وملابسات خاصة. الأمر الذي أفضى – ولا بد – إلى نوع من الجدل بين الخطاب والواقع، بل وأدى إلى أن يكون النص حاملاً لصور وثقافة الواقع الذي جاراه بالجدل والاحتكاك، وهو الجدل الدال على تأثير كل واحد منهما على الآخر، فإذا كان من المعلوم تأثير الخطاب على الواقع وتغييره، فإن لهذا الأخير تأثيره المقابل كما سنركز على الكشف عنه لاحقاً. لكن رغم هذا ظل الهدف الذي ينشده الخطاب هدفاً شاملاً ومطلقاً لم تؤثر عليه إعتبارات التنزيل من اللغة والاحتكاك بالواقع. ذلك أن الرسالة التي حملها الخطاب هي رسالة تكليف للإنسان بكل ما تحمله هذه اللفظة من معاني الأمانة والمسؤولية، وبكل ما تتضمنه من علاقة بين المكلِّف والمكلَّف وما تستهدفه من استخلاف وحساب. وهي معاني عامة ومطلقة لا تتقيد بظروف وأحوال، وإن كانت وسائل تحقيق ذلك عاجزة عن تجاوز ما عليه ظروف الزمان والمكان، أي أنها لا تتجاوز الواقع.

إن ما سبق ايراده يتسق مع بعض النظريات التي شهدها تاريخ الفكر الإسلامي حول طبيعة الخطاب الإلهي، والمسماة بمسألة كلام الله. صحيح أن هذه المسألة هي من المسائل العقلية المجردة التي ليس لها علاقة بالواقع، وقد عالجها المسلمون معالجات ذات سمة تجريدية عقلية أحياناً ونصية أحياناً أخرى، وقد ظلت دائرة الخلاف مستحكمة بين المسلمين قروناً طويلة لإرتباطها بنمط التفكير العقلي المجرد من غير أن تثمر شيئاً يذكر على صعيد الواقع.

فقد ذهب البعض إلى أن كلام الله قديم، واعتبره صفة لازمة عن الذات الإلهية، أو أنه معنى نفسي قائم بذاته كما هو رأي الأشاعرة التي وظفته في تصحيح إثبات الرسالة النبوية. وفي قبال ذلك ذهب بعض آخر إلى أن كلام الله مخلوق، كما هو رأي المعتزلة التي لم توافق على مقالة القِدم بإعتبارها تعني إثبات شيء آخر غير الله، مما يستلزم لديها الشرك. فيما لجأ جماعة إلى إعتباره محدثاً، كما هو رأي محمد بن شجاع الثلجي (المتوفى سنة 266هـ)، وهو المنقول عن بعض أئمة أهل البيت (ع)[2]. في حين رأى آخرون أنه ليس بمخلوق وإن لم يحددوا هويته، وهو المنقول عن أهل السلف[3].

ومن الواضح أن هذه الآراء لم يكن يعنيها خصوصية النص والواقع، فبعضها كان موظفاً لإثبات الرسالة، وبعض آخر وُظف للدفاع عن التوحيد الخالص بعيداً عما يظن أنه من الشرك. وفي جميع الأحوال لم تكن دائرة الإهتمام معنية بالواقع وتأثيره.

مهما يكن، فالملاحظ أن القول بقِدم كلام الله يتسق مع إعتبار اللغة العربية توقيفية، خلافاً للقول بخلقه الذي يتسق مع إعتبارها وضعية ناشئة بفعل الإنسان. كذلك فإن القول الأول ينسجم مع إعتبار الكلام الإلهي مجرداً تجريداً تاماً عن الواقع، فهو سابق عليه، وبالتالي أنه لا يتسق مع إعتباره حاملاً لصور مشخصة وضيقة للواقع، كما لا يتسق مع القول بمبدأ تأثير الواقع على هذا الكلام. في حين أن القول بخلقه يسمح بمثل هذه الإعتبارات، بل ويتسق مع ما يبديه من مجاراة مع طبيعة الواقع المتغير، سواء من حيث الاحتكاك به والتعامل مع صوره المشخصة المحدودة، أو من حيث تأثير الواقع عليه بنوع من الاستجابة لفعله، بدلالة القول بتدرج الأحكام أو القول بالنسخ والنسأ وما إلى ذلك. لهذا لجأ القائلون بخلق القرآن – في بعض حججهم – إلى ما تدل عليه ظاهرة النسخ، وهو أن القول بقدمه لا يسمح للإعتراف بالنسخ والتغيير، إذ معنى كونه قديماً هو أنه ثابت فكيف يُنسخ ويتغير[4] ؟!

ولعل من المفارقة أن نجد أن من يتمسك بالرأي القائل بقِدم كلام الله يتقبل حالات النسخ في جميع صورها حتى تلك التي تعبّر عن نسخ التلاوة، في حين نجد في القبال أن من يتمسك بخلق القرآن أو حدوثه لا يتقبل النسخ كلاً أو بعضاً. فمن صور هذه المفارقة ما يقوله الغزالي: ‹‹ما من حكم شرعي إلا وهو قابل للنسخ خلافاً للمعتزلة››[5]. فبعض المعتزلة ينكر أن يكون هناك نسخ بالمرة، وبعض آخر لا يتقبل حالة نسخ التلاوة، ويعد الروايات الواردة بشأنها، والتي سلّم بها الإتجاه الأول، خالية من الحجة بإعتبارها أخبار آحاد تفيد الظن لا القطع[6]. مع ما يلاحظ أن هناك صنفاً ثالثاً ظل متسقاً في إعتباراته، فهو يقر بحدوث الكلام، كما أنه يجيز جميع صور النسخ، كالشيخ أبي جعفر الطوسي من الإمامية الذي أجاز نسخ التلاوة وحدها والحكم وحده ونسخهما معاً؛ طبقاً للمصلحة[7].

وعلى العموم فإن علاقة الكلام الإلهي بالواقع تتردد بين عدد من الفرضيات على ما سيتضح كالتالي:

1ـ أن يقال بأن الكلام الإلهي يعمل على تحديد مسار الواقع والتحكم في مصيره، أو ما يقرب عن هذه الحتمية القبلية بما يتسق ومقالة قِدم الكلام، كما سنفصل ذلك عما قريب.

2ـ أن يقال بأن الأمر متبادل التأثير، فمثلما أن للكلام أو النص دوراً في تغيير الواقع وتحديد مساره، فإن للواقع أيضاً تأثيره غير المنكر على مسار الكلام، وذلك بعد التسليم بما يمتاز به هذا الكلام من فاعلية واستقلالية نسبية. فالنص مشكَّل بما يتناسب وطبيعة الخصوصيات التي تمتاز بها حوادث الواقع، ولولا هذه الخصوصيات ما كان للنص أن يتخذ الشكل الذي اتخذه في التعبير. كذلك فإن تغيّر الواقع وتنوّعه قد عملا – ولا شك – على إحداث أشكال متغايرة للصور التي تضمنها النص، كالذي يعرف بالنسخ والنسأ وكذا التدرج في الأحكام والمفاهيم والتعليمات. الأمر الذي يتسق ومقالة إحداث الكلام.

3ـ كما قد يقال أنه لا علاقة لأحدهما بالآخر. فالكلام ليس مؤثراً ولا متأثراً بالواقع بأي نحو كان. والعلاقة بينهما هي علاقة اتفاقية يشكل فيها النص القرآني رموزاً ليست معنية بما يجري من أحداث. فالنصوص التي تتحدث عن سيرة الأنبياء وقصص الأمم الغابرة وكذا الأحكام والمفاهيم؛ كلها لا يفهم منها أنها معنية بالواقع كما هو الظاهر، وإنما هي محض رموز صادف أن اقترنت بوجود تلك الوقائع أو رُكّبت عليها، مثلما تحاول الإتجاهات الباطنية المغالية التركيز على هذا المعنى؛ موظفة النص للقيام بمثل هذا الدور، رغم أن بطلانه بيّن بما لا يحتاج إلى دليل.

وعليه فالتنافس محصور بين الفرضين الأولين. لكن المشكلة ترتبط بالكيفية التي عليها الفرض الأول عندما يعتبر الكلام حاكماً ومحدداً لمسار الواقع بالإطار الذي نصّ عليه الكلام بالذكر. فبحسب هذا الفرض يمكن تصوير الكلام القديم، كصفة ذاتية، بايقاع مسجل تتردد فيه الكلمات النفسية بثبات وتواصل، أزلاً وأبداً. لكن مع أخذ إعتبار أن هذا التردد لا يتخذ صورة التدافع في الكلمات بحيث تتقلب وجوداً وعدماً، أو حضوراً وزوالاً، كما أن بعضه لا يتقدم على البعض الآخر. وهو من هذه الجهات يساوق العلم الإلهي الثابت. وبالتالي فهو ليس ككلامنا نحن الذي يدافع بعضه البعض الآخر ويتقدم عليه.

وتكمن المشكلة في صعوبة تصور جريان كلام على وتيرة واحدة ثابتة تتصل أزلاً وأبداً لحادث عابر لا يتعدى قطرة ضئيلة من بحر الوجود أو الزمان والمكان؛ كإن نتصور ترداد قوله تعالى: (فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها.. فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها.. فلما قضى زيد..) وذلك بثبات واتصال أزلاً وأبداً بلا إنقطاع، رغم ضيق الحادثة من الناحية الوجودية. فكيف يمكن للكلام أن يرتبط بحادثة ضيقة الوجود لم توجد بعد، ثم يظل الحال هكذا ابد الدهر رغم فناء الحادثة وانتهائها؟ ثم كيف نتصور أن يكون في هذا الكلام ناسخ ومنسوخ والحادثة المحكوم عليها بالنسخ لم تقع بعد؟

فمثلاً كيف نتصور أن يتردد كلام مثل قوله تعالى: ((يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون))[8]، ثم يتبعه ناسخه أو ناسئه: ((الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين))[9]، وهما على هذا الشكل من نسخ الأخير للأول أزلاً وأبداً بلا إنقطاع، مع أنهما مربوطان بحادثة ضيقة الوجود؟ سيما وأن أيّاً منهما لا يتقدم على الآخر، وليس لأحدهما من الصلاحية والإعتبار أكثر من نظيره، خلافاً لما ينعكس عليه الأمر حين يعاصران الحادثة ويتجسدان بنص بعضه يتقدم على البعض الآخر، وله من الصلاحية والإعتبار ما يختلف فيه عن قرينه. لهذا نعتبر أن مقولات، كالنسخ والنسأ والتدرج في الأحكام وكذا الإخبار عن الوقائع الشخصية والأحكام الخصوصية، كلها مما يتسق وإطروحة حدوث الكلام لا قدمه.

يضاف إلى أن هناك مشكلة أخرى، وهي أن الحوادث – بحسب إطروحة قِدم الكلام – لم تكن سبباً داعياً إلى وجود الكلام، بل العكس هو الصحيح، إذ قد تمّ تحديد هذه الحوادث بكل ما تتضمنه من تفاصيل طبقاً لما عليه مضمون الكلام، فأصبح الكلام سبباً للحوادث لا العكس.

فمثلاً ما حدث للمشركين من الكفر والجحود والمعاداة لله؛ لم يكن سبباً داعياً لأن تصفهم نصوص الآيات بصفاتهم وتتوعدهم، بل أن وجود الكلام القديم الذي تضمن ذكر المشركين وصفاتهم؛ جعل منهم وقائع تطابق ما عليه ذلك الذِكر من الكلام، ولولاه ما كان للمشركين أن يكونوا على ما وصفتهم به الآيات.

كذلك نسمع – كمثال آخر – قوله تعالى: ((قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير))[10]. إذ لم يرد هذا النص – بحسب تلك الإطروحة – طبقاً لما أجرته المرأة من الحوار والمجادلة بالفعل، بل أن كلمات الله على هذه الصورة أفرزت بالضرورة أن تكون هناك مرأة تجادل النبي (ص) في قضية زوجها حتى توافق ما عليه ذلك الكلام القديم. فالكلام – إذاً – هو المحدد للحدث لا العكس.

وقد يلاحظ أن هناك نوعاً من الجبرية، فكل حادث وصفه النص وعلّق عليه كان لا بد من أن يكون محدداً سلفاً بحسب الكلام القديم، وليس هناك ما يمكن أن يؤثر أو يغير من الحدث، بما في ذلك القدرة الإلهية، إذ أي تغيير يعني تغييراً لصفة الله الثابتة القديمة، وهو تناقض. مع هذا فالأمر ينطوي على حتمية لا جبرية. إذ تقتضي الجبرية أن يكون أحد الطرفين حراً ليمارس إرادته في اجبار الآخر، مع أن ما نحن بصدده ليس كذلك؛ طالما لا يمكن لإرادة الخالق أن تؤثر على صفاته سلباً وايجاباً.

كما يلاحظ أن الحتمية التي نتحدث عنها لا تقتضي بالضرورة التأثير والسببية، فقد تكون مجرد كشف سابق محتم من أحد الطرفين للآخر. ففي موضوعنا لا مانع من أن يكون الكلام القديم مجرد ‹‹حكاية إستشرافية›› لما سيحدث، مثلما يقال بشأن العلم الإلهي أنه ليس مؤثراً على الحادث؛ بل يعبّر عن ‹‹رؤية إستشرافية›› لما سيحدث فحسب.

وبذلك يمكن أخذ فرضية الكلام القديم بإعتبار المساوقة مع العلم الإلهي، فيعبّر الكلام عن ‹‹الحكاية›› مثلما يعبّر العلم عن ‹‹الرؤية››. لكنها يمكن أن تؤخذ بإعتبار آخر طبقاً لدلالة التأثير والسببية، وهي أن ما يحدث في الواقع هو تابع ومحكوم بتأثير الكلام. ومع أن النتيجة في الحالتين واحدة، إلا أن فرق التحليل والتعليل يختلف تماماً، إذ في حالة الرؤية والحكاية يمكن أن تكون الإرادة في الحادث البشري ثابتة، في حين تنتفي هذه الإرادة في حالة التأثير والسببية تماماً. فالحدث في الحالة الأولى مسبب بفعل الإرادة البشرية ذاتها، بينما في الثانية يتسبب بفعل العلم والكلام، رغم أن المحصلة في النتيجة واحدة بلا إختلاف.

مع هذا فعندما نقول أن هناك مساوقة بين العلم والكلام لا نغفل كون هذه المساوقة ليست تامة بحسب الفرض المتصور، فهناك فرق بينهما لا بد من إعتباره، إذ لا يوجد في العلم الإلهي استثناء فيما يكشف عنه من حوادث وجودية. في حين ليس الأمر كذلك فيما يرتبط بالكلام الإلهي. فهو كلام يخص حوادث دون أخرى، وأن ما جرى فيه الكلام لا يتعدى حدود قطرة من مياه البحر الواسعة. وهنا نعود إلى ما سبق أن طرحناه من مشكل، وهو أنه كيف يمكن تصور أن يكون الكلام الإلهي مرتبطاً بحوادث عابرة ضيقة الوجود؟ وما قيمة مثل هذه الحوادث حتى يكون الكلام عالقاً بها أزلاً وأبداً؟

وقد يعتبر هذا المشكل بلا معنى طالما كان التعلق والإرتباط ذاتياً، مثلما لا معنى لأن يقال لِمَ كانت النار حارة، إذ ليس هناك من جواب سوى القول بأن الأمر هكذا وكفى. لكن من حيث التحليل فالإشكال وارد، وهو: لِمَ يرتبط القديم بحيّز ضيّق من الوجود؟ فلماذا نمنع أن يتصف العلم الإلهي بحوادث دون أخرى، ونعتبر هذا العلم إما أن يكون عالقاً بمطلق الحوادث، أو هو ليس عالقاً بشيء مطلقاً، وبالتالي لماذا نستدل في العلم الإلهي على سعة العلم وإطلاقيته ولا نستدل كذلك فيما يخص الكلام الإلهي؛ كإن نقول إما أن يكون هذا الكلام عالقاً بمطلق الحوادث أو أنه ليس عالقاً بشيء تماماً؟ فهما بحسب الفرض متساوقان، إذ كل منهما عبارة عن صفة قديمة ذاتية وعالقة بالحوادث. فهل هناك فرق بين الحالين؟!

هكذا يجرنا البحث إلى تصحيح إطروحة قِدم الكلام، فهي ليست متسقة إلا عندما تتحدث عن كلام شمولي يستوعب بين جوانحه كافة الحوادث؛ رغم ضيق النماذج التي تمّ الكشف عنها وإنزالها، ومنها القرآن الكريم، في حين بقي أغلبه مكنوناً في علم الغيب. فهل إليه الإشارة بقوله تعالى: ((ولو إنما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله))[11]؟

ورغم إتساق هذا الفرض وقدرته على أن يبرر حالات؛ مثل النسخ وتغيير الأحكام وكل ما يتعلق بتجدد الحوادث والواقع، فكل ذلك يمكن أن يستوعبه كلام الله المطلق الشامل؛ لكن مع هذا ليس بإمكان هذا الفرض أن ينافس الفرض الثاني الذي سبق طرحه، وهو أنه يجعل العلاقة بين الواقع والكلام متبادلة التأثير. فالخلاف بين الفرضين هو خلاف بين الظاهر الوجداني وخلافه. فالقول بمقالة قِدم الكلام بكافة صورها يخالف إدراكنا لتجاوب النص القرآني وتفاعله مع الواقع تأثراً وتأثيراً. وبالتالي فإن القول بتلك الإطروحة يجعلنا نعتبر مثل هذه العلاقة التبادلية محض وهم وخداع.

لكن مثل هذا الأمر يفتح لنا الباب على مصراعيه. فقد يأتينا من يقول بأن ما نتصوره من وجود واقع موضوعي خارج الذهن هو محض وهم وخداع، مثلما يدعو لذلك الفيلسوف المعروف (جورج باركلي). مع أنه ليس لنا الرد في كلا هاتين الحالتين سوى العودة إلى الظاهر الوجداني!

***

مهما يكن فالإختلاف في طبيعة الإتساق لكلا الفرضين له إنعكاسات على إدراكنا لقيمة وقداسة الخطاب المنزّل. فلو أننا اعتبرناه قديماً وصفة من صفات الله الذاتية؛ لكان ثابتاً لا يقبل التغيير بفعل الواقع من المحو والنسخ والإزالة وما إليها، خلافاً لما لو اعتبرناه محدثاً ومخلوقاً، إذ يصبح حاله كحال إعتبارات عالم التكوين من الخلق، فيقبل المحو والإزالة بمشيئة الله تعالى، كما ويقبل الجدل مع الواقع تأثراً وتأثيراً.. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، إذ تصبح القيمة المعرفية والمعنوية المضفاة على الخطاب في الحالتين مختلفة ولا بد. فالقول بكونه صفة – مثلاً – يجعله متعالياً عن إمكانية اعطاء قيمة مضادة، فإذا اعتبرنا الكلام صادقاً، فإن ذلك يمنع من أن يكون هناك إمكان للكذب والخداع وخلف الوعد والوعيد، وهو أمر قد تمسكت به الأشاعرة لتصحح إثبات المسألة الدينية برمتها. وهو خلاف ما لو قلنا أنه مخلوق، حيث لا يجد العقل في هذه الحالة إستحالة لإعطاء القيم المضادة؛ كإمكانية الكذب والخداع وخلف الوعد والوعيد. ولا شك أن هذا التفاوت المعرفي هو في حد ذاته يعكس تفاوتاً في القيمة المعنوية والقداسة، حيث يبدو في الحالة الأولى وكأنه يتخذ صورة الإله، بينما في الحالة الأخرى لا يكون كذلك. الأمر الذي له إنعكاس على طبيعة تعاملنا معه فهماً وعلاقة.

من هنا برز التفكير في مسألة ما اُصطلح عليه بالصرفة، ومن ثم طبيعة الإعجاز الخاص بالخطاب. فالصرفة بحسب عدد من العلماء هي المقصودة من الإعجاز في الخطاب؛ كالذي ذهب إليه النظّام ومن ثم الجاحظ وكثير من المعتزلة وإبن حزم وأبي اسحق الاسفراييني، ومن الإمامية إبن سنان والشيخ المفيد، وربما تلميذه الشريف المرتضى إذ له كتاب بعنوان (الصرفة في إعجاز القرآن)[12]. والمقصود بالصرفة وعلاقتها بالإعجاز هي كما حددها النظّام بأنها تعني ‹‹أن الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم، وكان مقدوراً لهم، لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات››[13]. وكذا ما ذكره الشيخ المفيد تحت عنوان (القول في جهة إعجاز القرآن) من ‹‹أن جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن المعارضة للنبي (ص) بمثله في النظام عند تحديه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله وإن كان في مقدورهم دليلاً على نبوته (ص)، واللطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان، وهذا من أوضح برهان في الإعجاز وأعجب بيان وهو مذهب النظام وخالف فيه جمهور أهل الاعتزال››[14].

وليس هذا المفهوم هو الوحيد عن الصرفة، فقد ذُكر أن من قال بها على قولين: ‹‹أحدهما أنهم صُرفوا عن القدرة عليه، ولو تعرضوا له لعجزوا عنه. والثاني أنهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه››[15]. وقد ذهب آخرون في القبال إلى ‹‹أن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات، وأن العرب كلفت في ذلك ما لا يطاق، وبه وقع عجزها››. وقد رد السيوطي على هذا الموقف بإعتبار ‹‹أن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يتصور التحدي به››، ونسب إلى الجمهور إعتبار الإعجاز والتحدي إنما بالألفاظ التي ورد فيها القرآن كما هو[16].

ولا شك أن القول بالصرفة يتسق مع نظرية خلق القرآن، إذ هو شيء محدث قابل بذاته للصياغة المماثلة والتقليد، كما يقبل المحو والإزالة كأي مخلوق آخر في عالم التكوين. في حين أن الرأي الذي يعد الإعجاز والتحدي بمجرد اللفظ والكلام يتسق تماماً مع مقالة القِدم وصفة الذات للكلام، فهو لا يقبل أي إمكانية من إمكانيات الصياغة المماثلة والتقليد، كما أن من إعجازه افتراض كونه لا يقبل أي شكل من أشكال التغيير والتجديد؛ سواء من حيث الواقع وضغوطه، أو من حيث إعتبارات أخرى غيره. أما القول بالصرفة فهو وإن كان لا ينفي الإعجاز في الكلام، لكنه يجعل خاصية هذا الإعجاز لا تعود إلى الكلام ذاته، وإنما إلى إعتبارات المشيئة الإلهية، أي أنه من حيث ذاته ليس معجزاً، كما أنه من حيث الذات يكون قابلاً للتغيير كأي مخلوق آخر في عالم التكوين.

هكذا أنه مع مقالة إحداث القرآن تصبح العلاقة التي تستحكم بين النص والواقع علاقة منطقية يمكن فهمها بما تحمله من صور الجدل والتغيير في الأحكام. فمن جانب أن النص يحمل صوراً منتقاة ومحددة من الواقع؛ كثيراً ما تكون محكومة بطابع نسبي من الزمان والمكان، أو من الظروف الطارئة غير العامة والمطلقة. كما أن النص من جانب آخر كثيراً ما يستجيب إلى أمر الواقع. الأمر الذي يؤكد حالة التفاعل والجدل بين حمل النص للمعاني والمفاهيم المنزلة والمؤثرة على الواقع وبين استجابته لهذا الأخير بنوع ما من المحكومية.

تظل هناك ناحية أخرى نشير إليها ونوكل ما يؤكدها إلى ما سيأتي من فصول. ذلك أن النص هو كعالم التكوين؛ كثيراً ما نتوهم تطابق عقولنا مع مداليله بالفهم والمصداقية، مع أن حقيقة الأمر شيء آخر. فتاريخ الفكر البشري غارق – حتى عهد قريب – بالوهم القائل بتطابق عقولنا – كلياً – مع ما ينكشف لها من مضامين الواقع. لكن بفضل الثورة العلمية ثبت أن الإنسان كان مغالياً إلى أبعد الحدود. ولعل من المفيد التذكير كيف أن العقل البشري ظل يتصور – طيلة قرون مديدة – جملة من الأفكار المجانبة للحقيقة حول الواقع، حتى انكشف له الصواب فيما بعد، ومن ذلك توهمه بأن الأرض مسطحة وساكنة، أو أنها مركز الكون، وأن الشمس هي التي تدور حول الأرض، وأن سرعة الأجسام الساقطة إلى الأرض تتناسب اطراداً مع أوزانها، وأن النجوم المرئية موجودة فعلاً… الخ.

ويشبه هذا الأمر من بعض الجوانب ما تقرر لدى الفكر الإسلامي من رسم العلاقة بين العقل والنص، إذ كان الكثير من العلماء يظنون بأن العقل قد حسم الأمر مع النص؛ إما بتطابقه مع ظاهر النص وعدم لحاظ ما يثير التعارض بينهما، أو من حيث ما يقتضيه الأمر من تأويل العقل للنص عند التعارض؛ لتتخذ العلاقة بينهما شكل التوافق والتطابق.

والنتيجة التي نخلص إليها، كما ستضفي البحوث القادمة على اجلائها، هي أن النص ليس معزولاً عن الواقع. وإذا كان من المعلوم أن الأول قد أثّر تأثيراً كبيراً على الأخير؛ فإن لهذا الأخير طريقته في التأثير على الأول، بحمله على الإستجابة إليه من غير تعال ولا تجريد. كما إذا كان للنص قدرة على بيان ما للواقع من صور مختلفة لا تخلو من تنبؤات أحياناً مهما كانت مجملة، فللواقع في المقابل قدرته المتميزة على الكشف عما يحمله النص من حقائق ومضامين، بل وله القدرة على إزالة ما ترسّب في الأذهان من مسلّمات عُدّت واضحة ومطلقة لتعلقها بظاهر النص. فهو يعمل من هذه الناحية على تصحيح الرؤى التي توهم بالكشف عن معنى النص ومطابقة الخطاب. ومنه يتبين بأن الواقع هو مقياس الفهم واستكناه الحقيقة، ومنها الحقيقة الدينية المعبّر عنها بحقيقة النص والخطاب.

كما نخلص إلى أن النص والواقع توأمان محدثان عن الله تعالى، أحدهما يكشف عما في الآخر من حقائق، وقد درج العلماء على أن يطلقوا على الأول سمة الكتاب التدويني، بينما وسموا الآخر بالكتاب التكويني، فكل منهما يكشف عما يحمله الآخر من حقائق. وإذا كان من وظيفة الأول تغيير الواقع إلى حيث الكمال بالتدرج؛ فإن من وظيفة الثاني العمل على تغيير مفاهيمنا عن الأول بما يجعلها أقرب إلى الحقيقة. وهنا يتخذ التكوين دور الأساس لفهم الآخر ومعرفته. وبعبارة أخرى لا يمكن لفهم النص أن يستقل عن الواقع. فالأخير هو مقياس الفهم والتحقيق قبل أي إعتبار آخر.

الواقع 

تتضمن جميع الدراسات الفلسفية والإنسانية والطبيعية معالجات مختلفة حول (الواقع). ورغم إختلاف مفهوم الأخير من دراسة لأخرى، إلا أنها جميعاً تتفق على مفهوم عام يعبر عن المعطى الموضوعي للأشياء، رغم ما لدلالة ‹‹المعطى الموضوعي›› من التباس. فجملة من المدارس الأدبية تركز على المعطى الموضوعي للطبيعة والحياة الإجتماعية المعاشة، وهي من هذه الناحية تعد نفسها واقعية بإعتبارها تلجأ إلى (الواقع) بعيداً عن الرومانسية الذاتية. وبعض المدارس الفلسفية ترى أن الواقع أو المعطى الموضوعي محدد بكل ما هو حسي وقابل للتجربة المباشرة. في حين ترى مدارس أخرى أن الواقع أعم من هذه الحدود، فهو ينبسط على إمكانات بعيدة عن الحس والتجربة المباشرة، كعالم الجسيمات الإلكترونية وما شاكلها. وقد يختلط الواقع هنا بعوالم أخرى مفترضة لا يعلم إن كان لها حقيقة موضوعية أم لا؟ فالأبعاد الهندسية للكون، كما يتحدث عنها العلم اليوم، تتجاوز حدود الحس والتجربة لتضفي صوراً أخرى يعدها العلماء مهمة للتقدم العلمي رغم أنها افتراضية ذهنية. ومثل ذلك ما تتحدث عنه نظرية الكوانتم من أن عالم الجسيمات المجهرية يتصف بخاصية الإحتمال وصرف الصدفة كبعد موضوعي يختلف فيه الحال عن عالم الأجسام الكبيرة[17]. ناهيك عن أن هناك مفهوماً آخر للواقع تضيفه الدراسات القيمية والمعيارية، كدراسات الأخلاق والفن والجمال، إذ لا علاقة للواقع الذي تتحدث عنه بالأمور الكونية، بل لها علاقة بالإعتبارات الموضوعية طالما أنها ليست صنيعة الذات البشرية.

على هذا، فرغم شدة وضوح مفهوم الواقع لدى بعض الأبعاد والمعطيات، لكنه يكتنفه الغموض في أبعاد أخرى. ومن وجهة نظرنا أن للواقع أبعاداً واسعة تغطي المعاني الكونية والنفسية والإجتماعية والمقتضيات المعيارية وما تتضمنه من سنن وعلاقات، ويمكن أن نصفها – جميعاً – بعالم الشهود. فأدنى أبعاده مرتبة العالم المادي المحسوس، لكنه يزيد على ذلك فيشمل كل ما هو قابل للكشف المعرفي الموضوعي وإن ابتعد عن الإدراكات الحسية. ومن خصائص الواقع الكوني أنه موجود بغض النظر عن الإدراك العقلي، فسواء أدركته الذات البشرية أم لم تدركه، وسواء كان الإنسان موجوداً أو معدوماً، فإنه يمتلك وجوداً مستقلاً أخص من الوجود العام الذي تتدارسه الفلسفة القديمة عموماً. وهو بهذا المعنى يختلف عن عالم الغيب رغم أنهما موضوعيان يقابلان الذات أو العقل البشري. لكن يضاف إلى ذلك الواقع النفسي، بما يعبر عن مختلف الحالات التفسية للبشر كالتي يدرسها علم النفس وتبنى عليها العلوم الإنسانية الأخرى، وميزته أنه غير مستقل عن الإنسان.

وعموماً ينقسم الواقع إلى قسمين: وصفي وإعتباري. ويختص الأول بالواقع التقريري أو الإخباري، سواء كان محسوساً أو غير محسوس، وهو يشمل كلاً من السنن والحقائق، الكونية منها والبشرية، مثل سنة الحياة والموت، وسنة تفاعل الإرادة البشرية مع القوانين الكونية، وحقيقة كروية الأرض، وجريان الشمس، ومختلف حقائق عالم الحس والفضاء وغيرها. يضاف إليها الحقائق التاريخية، والتقاليد والأعراف العامة وما إليها. وبالتالي فالواقع الوصفي على أنواع ثلاثة: حقائق خاصة محسوسة وغير محسوسة، وحقائق عامة من السنن والقوانين الحتمية، وسنن إجتماعية وتقاليد وأعراف عامة؛ مما لا يصل مداها إلى الحتم واللزوم[18].

أما الواقع الإعتباري فهو يختص بقضايا القيم مثل إعتبارات المصالح والمضار، إذ يمكن إعتبار القيم الحسنة منشأً للغرض والمصلحة الواقعية، فالقيم من هذه الناحية ترتبط بالواقع إرتباطاً وثيقاً. فللقيم الحسنة آثارها الواقعية من المصلحة الأكيدة، وأن كشف العقل عن قضايا الحسن هو كشف عن المصالح أيضاً، فما من شيء حسن إلا وفيه مصلحة راجحة. فمثلاً يعتبر مبدأ الصدق حسناً إذ تترتب عليه آثار المصلحة العامة؛ حتى وإن كان مفصولاً عن النية والدافع الأخلاقي، فلو أن الأصل في الحياة هو الكذب لعجز الناس عن معرفة الحقائق إلا ما ندر، ولترتب على ذلك فقدان الثقة التي يتوقف عليها إمكان التواصل في العلاقات الإنسانية. وقد اتضح من خلال الدراسات الحديثة مدى أهمية مبدأ الثقة في العلاقات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والعلمية وغيرها[19].

ومن هذا المنطلق لا يمكن للإنسان أن يعيش بلا واقع، فلكل إنسان واقعه ومحيطه بكل ما يحملانه من مكونات مادية وسنن طبيعية وإجتماعية ومعيارية إعتبارية تؤثر على حياة الفرد وتحدد إطار سلوكه ونشاطه وثقافته وفكره. فالواقع بهذا الإعتبار هو المعطى الموضوعي المقابل للذات البشرية، وهو من أقوى المحددات التي تعمل على صياغة ثقافة الفرد وفكره، ناهيك عن سلوكه ومجمل شخصيته. أما الذات البشرية فتعمل على صقل الخبرات الواقعية وبلورتها، مع ما تضيفه من قوالب ومضامين خاصة تعد من الأهمية بمكان، فمن خلالها يمكن للذات التجرد والتحرر نسبياً من هيمنة الواقع والتخفيف من وطأته. وبهذا التداخل يتحقق الجدل والتفاعل بين الذات والواقع، وهو الجدل الحاصل بين الطموح والأمر المفروض. إذ تقتضي شدة الإحتكاك بالواقع إضعاف الإرادة عن التجرد والتحرر، كما أن الإلفة تسلبها الوعي بالتأثير. والعكس صحيح أيضاً، فكلما ضعف الإرتباط بالواقع؛ كلما إزداد تمكّن الذات من التجرد والتحرر، وهو ما يدفع إلى الوعي بنمط التأثير والتفاعل بينهما، كما قد يتيح للذات الفرصة في التحكم بضبط هذه العلاقة وتوجيهها الوجهة المطلوبة، وعلى الأقل أنه يبعث على الوعي بوسائل التحكم والتوجيه.

من جانب آخر، عادة ما تميل طبيعة الإنسان إلى التفكير المطلق؛ بجعل الحقائق تتجاوز حدود الواقع أو الزمان والمكان. وهو وهم يعود إلى عدم الوعي بالواقع وأثره على خلق هذا النمط من التفكير. مع ذلك فإننا لسنا ضد التفكير الإطلاقي بإطلاق، بل نعترف بأن من القضايا الثابتة هي وجود حقائق مطلقة، وأن هناك إمكانية لنشأة التفكير من النمط المطلق كالذي يجري في الدراسات الفلسفية والمنطقية. لكن موضع تحفظنا هو عندما يكون هذا التفكير يجهل ما عليه الواقع، أو يغفل عما فيه من سنن وقوانين. فأغلب ما يُطرح بأنه من الحقائق المطلقة لا يعدو كونه وهماً مطلقاً ناتجاً عن تأثير الواقع النسبي، أو ما يسمى بروح العصر، دون التفات إلى ما يتمتع به الواقع من مجالات أخرى كما تؤكدها سنن الحياة وقوانينها. ففي كل عصر هناك صور كثيرة للتفكير الإطلاقي الميالة إلى التجريد والتعميم؛ لتأثير روح العصر وعدم مجاوزته، أو لعدم الوعي بأبعاد الواقع وأشكاله المختلفة.

فمن المعروف – من الناحية السيسيولوجية – أن لكل عصر روحاً خاصة تؤثر على الناس بما يجعل تفكيرهم يتجاوز حدود الزمان والمكان. وهو أمر ينطبق على تراثنا المعرفي، بل وينطبق على تفكيرنا المعاصر المنشغل بقضايا الإسلام وعلاقته بالإشكاليات الراهنة. إذ أصبح الواقع الخاص هو المحدد لصور الإطلاق وصيغ التفكير الكلية ذات العلاقة بالإسلام وفهمه. فالذي يطلع على الدراسات التي كتبت حول قضايا الحكم والقومية والديمقراطية وحقوق الإنسان وشؤون المرأة والموقف من أهل الكتاب والرق والغناء والموسيقى، فضلاً عن التفاسير التي تنهج نهج العلوم الطبيعية وغيرها؛ يراها مشحونة بعبوات كبيرة من تأثير الواقع، بوعي أو بغير وعي. فكثيراً ما يتصور الباحث أنه إتخذ طريقه إلى الصواب بمعزل عن تأثير الواقع، أو دون دافع ومحرّك خفي. هذا إن لم يلجأ أساساً – وبشكل مفضوح – إلى الإعتماد على الدوافع الآيديولوجية لأغراض شتى منزوعة عن الواقع ذاته.

ومن ذلك كثيراً ما يفرض الواقع ذاته على فتاوى المجتهدين، فالآلات والصناعات التي يشاع استخدامها تتحول بمرور الزمن إلى عامل ضغط تُلجئ المجتهدين إلى التعاطي معها بإيجابية، ولو عبر تغيير الفتاوى السابقة. فالمسارح والفنون وآلات الراديو والتلفزة والموسيقى والتصوير وغيرها.. كلها أمستْ ذات أثر واضح على فتاوى الفقهاء ومبانيهم، بعد أن شاع استخدامها وأصبحت قريبة من الناس. بل حتى الأفكار الغربية الوافدة أو تلك التي يشيعها المثقف وينشرها في الوسط الإجتماعي العام، هي الأخرى كان لها الأثر الكبير على تغيير الكثير من المفاهيم والفتاوى وأحكام المجتهدين. وبالتالي فكل ما يشيع استخدامه وترويجه يتحول إلى أثر ضاغط يُلجئ الفقيه إلى التعاطي معه بإيجابية وقبول، ولو عِبر إحداث فتوى جديدة تتعارض مع الفتاوى القديمة. وهنا يصبح الواقع مغيراً للحكم والفتوى بعد أن كان العكس هو الحاصل. أو أن للناس دوراً فاعلاً في التأثير على الفقيه، والعكس صحيح أيضاً.

إن ما سبق يدعونا إلى الوعي بمراقبة مصادر فكرنا وأثر الواقع المعاش عليها. صحيح أننا لا يمكن أن نجرد أنفسنا عن التأثير الواقعي عند إعمال الرأي وتأسيس المعرفة. لكن صحيح أيضاً أن إدراكنا لطبيعة هذا التأثير يجعلنا نفهم نوع العلاقة التي تربطه بالمعرفة التي نؤسسها، وبالتالي قد نتمكن بفعل تجريد الذات – نسبياً – من إحكام هذه العلاقة وضبطها بدلاً من أن تكون مدفوعة بسلطة الواقع المعاش وقيده، بل ولقلب الحال بإخضاع الأخير وتطويعه لما نطمح إليه من تشكيلات جديدة مفضلة نتجاوز فيها مظاهر تبريره أو الصدام معه.

هكذا فنحن إما أن ننقاد تحت هيمنة الواقع، أو نكون على وعي بالأخير لنعمل على توجيهه إلى ما نهدف إليه. فحالنا كحال الحصان والعربة؛ إن شئنا جعلنا الحصان خلف العربة وتركناه يتخبط دون التمكن من الجري وتحديد المسار، أو جعلنا الحصان أمام العربة لنتحكم في جريه ومسيره.

وننبّه إلى أن النهضة الغربية لم يكن بمستطاعها أن تنجح لولا ما شكّله الواقع من حضور في الوعي الاوروبي. ودلّ على هذا الحضور أن الغربيين جعلوا الواقع أساساً للحقائق المستخلصة عبر الإستقراء والتجربة، بعد الإنتفاض على الطريقة الأرسطية ذات التفكير المتعال. فقد كانت الأخيرة تعد العقل أساس الواقع؛ وجوداً وحكماً، فمن حيث الوجود اعتبرت الواقع إفرازاً للعقل لا العكس، أما من حيث الحكم فقد اعتبرت العقل مرآةً للواقع، وأن للأول قدرة على كشف الثاني، وكذا فإن قوانين الأول مطابقة للآخر من غير حاجة لإعمال الفحص والتجربة. وقد أعاد الفكر الغربي تركيب الصياغة بين المحورين لصالح الواقع بنقض المقولتين معاً. فلا العقل أساس الواقع، ولا أنه مرآة مطابقة له بالضرورة، بل الأمر يعود إلى ما يمكن كشفه من حقائق عبر مبدأ الإستقراء والتجربة.

أما الفكر الإسلامي فهو وإن استحضر ‹‹الواقع›› بين جوانحه بنوع ما من الحضور، إلا أنه مختزل إلى حد بعيد، لذا لم يتشكل عليه وعي كاف يبدي قيمته، بل كان غيابه أقرب للحقيقة من حضوره. فإذا نظرنا إلى العلوم العقلية نجد أن ما شغلها كان بمعزل عن الواقع، إذ هيمنت إشكالية العقل والنص على هذه العلوم دون إلتفات إلى أهمية الأخير. يضاف إلى أن القضايا المطروحة كانت متعالية على الواقع وإشكالياته. فمثلاً لم يكن هناك إهتمام بعالم الإنسان وعلاقاته الإجتماعية والحضارية. أما على صعيد العلوم النقلية فنحن وإن وجدنا جملة من الإعتبارات التي تمّ فيها توظيف الواقع بمظاهر متعددة، كما في مبدأ العرف والمصلحة الفقهية، إلا أن ذلك كان يجري ضمن جدول ثانوي مهمش مقارنة بالجداول الرئيسة المعتمد عليها، مثلما هو الحال مع نمط التفكير المستمد من دوائر البيان النصي والقياس. ناهيك عن أن هذه المظاهر كانت مكبّلة بقيود خاصة لا تتلائم مع آلية الإنفتاح على الواقع بكافة أبعاده. وعليه لم يكن للأخير من دور ولا حضور، بل ولم يلتفت إليه على مستوى الوعي الكافي، باستثناء عدد من الشذرات المنبهة على بعض إعتباراته وخصوصياته، هنا وهناك، لكنها مع هذا لم تستطع أن تتغلب على الحركة العامة التي سارت بإتجاه آخر مختلف.

وبعبارة أخرى أن ما وصفه (فرانسيس بيكون) من أن المنطق الأرسطي لم يعر أهمية للواقع، بل سرعان ما كان يصدر أحكامه وإطلاقاته[20]، هو عينه ينطبق على الفكر الإسلامي وصلته بالواقع. فلم يستعن هذا الفكر بالأخير ولم يحتكم إلى مرجعيته في الأحكام وتمحيص المقدمات، بل كان مقيداً ضمن دائرة العقل والنص دون أن يتعداهما، الأمر الذي جعل مصيره يؤول إلى ‹‹الإفلاس›› والسقوط في خندق التناقض، مثلما انكشف الحال لدى الفخر الرازي وغيره من أصحاب العلوم العقلية[21]. فقد أخذ ‹‹العقل›› يصطدم بذاته ضمن حلقة مفرغة من التناقض دون خلاص، سيما أنه لم يُطرح على بساط التحليل لتتحدد إمكاناته وأنماطه وقيمه، إنما عُوّل عليه تعويلاً مطلقاً كمصدر للحقيقة، وكأساس تبنى عليه المعارف الأصولية، رغم ما تضمّنه من مقدمات متناقضة أو غير متفق عليها. لذلك عجِزَ العقليون عن أن يثبتوا أصول الدين وعدد من القضايا العقائدية الأخرى؛ طالما أظهر ‹‹العقل›› تناقضاته ولم يستعن بالواقع وأدواته لحل ما إعترضه من قضايا، كالحال مع مسألة القضاء والقدر التي لم تطرح من زاوية البحث الواقعي، بل عوّلجت عقلياً، فاختلفت العقول واصطدمت فيما بينها، ووظفت لأجل ذلك النصوص من الآيات، وكانت النتيجة أن جُعل بعضها يضرب البعض الآخر. مع أنه كان من الممكن تفادي كل ذلك فيما لو اُستنطق الواقع واُستلهمت حقائقه. فهو كتاب الله التكويني، مثلما أن النص القرآني كتابه التدويني.

ونفس الحال نجده مع الدائرة البيانية التي راهنت أن ترى الحقيقة من زواية النص فحسب. فقد شهدت هي الأخرى قصوراً وتناقضاً لعدم إتخاذها الواقع مصدراً معتمداً في التحقيق. وأصبح من الواضح أنه كلما امتد الزمن كلما تحول البيان إلى متشابه، فلم يعد البيان بياناً. فالذين قيدوا أنفسهم بالبيان وإعتباراته اللفظية وجدوا أنفسهم بعيدين عن حركة الحياة ومسار الأحداث، حتى إعترف بعضهم بمنطق الإنسداد لشدة التشابه مع تقادم الزمن.

فالذي أسقط البيان في القصور هو ذاته الذي أسقط العقل في المآل نفسه، وذلك لعدم الإحتكام إلى منطق الواقع وإعتباراته في التحقيق، ومن ثم رسم العلاقة التي تربط هذه الأبعاد الثلاثة ببعضها.

هكذا نخلص إلى التشديد على ضرورة أخد ‹‹الواقع›› في الإعتبار وإحضاره بوعي على مستوى التأسيس، كنظام ومنهج غرضه دفع الفكر الإسلامي نحو آفاق مفتوحة غير قابلة للإنغلاق، بعد رفع اليد عما ساد من نمط التفكير الذي حدده النظام المعياري، سواء في منهجه العقلي، أو منهجه البياني وطابعه الماهوي.

العقل 

أما العقل فهو تلك الأداة المدركة لذاتها ولغيرها. فالإدراك هو خاصية العقل ووظيفته الجوهرية. وله مراتب وقيم مختلفة بحسب ما تقتضيه العملية العقلية والشروط التي تحققها، فهي أشبه ما تكون بالمرايا التي تعكس صور الأشياء. إذ لا تعتمد عملية الإنعكاس على الوضع الذي عليه الشيء من الهيئة والبعد والقرب فقط، وإنما على طبيعة المرآة ذاتها أيضاً، حيث تختلف المرايا فيما بينها في درجة الصقل والإستواء والتحدب والتقعر والتصغير والتكبير، وكل ذلك يؤثر على طبيعة ما تعكسه من صور، ومدى ما تعبّر فيه عن مطابقتها للشيء الخارجي.

والإدراك على أصناف ثلاثة، فمنه ما يكون لقضايا كلية مجردة لا تحمل صفة الإخبار الخارجي، مثل القضايا الرياضية والمنطقية، كما منه ما يكون لقضايا واقعية شهودية، يضاف إلى أن منه ما يكون لقضايا غيبية ميتافيزيقية.

كذلك فإن سلسلة الإدراك في آلية التوليد والإستنتاج تختلف هي الأخرى من قضايا إلى غيرها، فقد تكون المقدمات المعتمدة في الإدراك قبلية تجريدية ليس مصدرها الموضوع الخارجي ولا تحمل صفة الإخبار عنه، كما قد تكون حاملة لهذه الصفة من الإخبار، يضاف إلى أنها قد تكون واقعية تفيد الإخبار عن غيرها، وهكذا.

ومن حيث الأساس تستعين عملية الإدراك بهذه المقدمات لأجل التحقق في القضايا، مما يجعلها متفاوتة تبعاً لطبيعة هذه الوسائط من المقدمات. فمن القضايا ما لا تحتاج إلى وسائط أخرى غير ذاتها، فتكون عين الموضوع المدرك، وهي التي تتصف بالأولية والضرورة واليقين، إذ لا تحتاج إلى مقدمات سابقة لإستنتاجها، بل يكفي العقل إدراكها مباشرة ليحدد صدقها وضرورتها. وهي تمتاز بخصائص عدة، فتارة تكون محض منطقية لا إخبارية، كمبدأ عدم التناقض المنطقي ومبادئ الرياضيات، وثانية تكون إخبارية على نحو الإجمال، كمبدأ السببية العامة. وهناك قضايا أخرى لا تخضع نتائجها للمقدمات الاستدلالية، أو أن من الممتنع معرفتها عبر هذه المقدمات، ومع ذلك فالعقل البشري لا يشك في صدقها، رغم عدم كونها من الضرورات، طالما لا يمتنع عقلاً ومنطقاً أن تكون خاطئة وكاذبة، مثل قضية الواقع الإجمالي[22]، وقضية الصدق الإلهي، أي صدقه في إخباره ووعده ووعيده، فهي إما أن تكون مفتقرة للمقدمات التي من شأنها إثبات القضية كما في حالة الواقع الموضوعي العام، أو أن المقدمات ليست كافية رغم ما لها من أمارات ودلالات تفيد الإطمئنان، لكنها لا تفضي بذاتها إلى الجزم منطقياً، كالحال مع قضية الصدق الإلهي[23].

هكذا فباستثناء الحالة الأخيرة أن القضايا المذكورة، سواء كانت من صنف الضرورات أو من صنف الوجدانيات الإخبارية – كما في قضية الواقع الإجمالي العام -، لا تحمل وسائط أو مقدمات منتجة.

أما القضايا التي تحتاج إلى وسائط منتجة؛ فتارة تكون الواسطة قبلية والنتيجة قبلية مثلها، وتصبح القضية عقلية تجريدية صرفة، مثلما هو الحال مع المستنتجات الرياضية، حيث تتصف بالقطع والضرورة طالما أن وسائطها كذلك، ولو كانت الوسائط غير قطعية فستكون نتائجها غير قطعية هي الأخرى. كما قد تكون الواسطة قبلية ويراد منها إستنتاج قضية إخبارية، وهي تصح في حالات قليلة معدودة يمكن البت فيها، كما هو الحال مع السببية العامة، بإعتبارها مبدأً قابلاً للإخبار عن الموضوع الخارجي. كذلك قد تكون الواسطة بعدية واقعية ويراد منها الكشف عن قضية إخبارية سواء كانت الأخيرة واقعية أم ميتافيزيقية، ونطلق عليها بالقضية البعدية الإخبارية، وهي قد تمتاز بالصدق عند وفائها ببعض الشروط، أهمها الإستعانة بالإحتمالات المنطقية طبقاً للطريقة الإستقرائية.

لكن هل يمكن تأسيس قضية واقعية طبقاً لقضية أخرى ميتافيزيقية؟ الجواب هو النفي. وكذا هل يمكن بناء قضية لا إخبارية على قضية إخبارية، كإن نبني قضية منطقية استناداً إلى ركائز واقعية أو ميتافيزيقية؟ الجواب هو النفي أيضاً. والسبب في ذلك هو أن أساس القضية الواقعية مستمد من الحس والتجربة والإستقراء، وهذه القضايا ليست مؤهلة لكي تثبت قضايا كلية، فهي تتعامل مع الجزئيات. فهي وإن كان بإمكانها إثبات كليات منتزعة من الواقع على نحو التعميم، لكن هذا الإثبات للكليات فيه نوع من المسامحة، فمن جانب أن من المحال تبرير التعميم لهذه الكليات، كما أنها – من جانب آخر – تعتمد في استدلالها على الكليات القبلية، كمبادئ الإحتمال والسببية العامة وما إليها. والأهم من ذلك أنه لا علاقة لهذا الإثبات بالقضايا المجردة. أما القضية الميتافيزيقية فمن الواضح أنها ليست مؤهلة لإثبات القضية الواقعية، طالما أن الأولى ليست محلاً للكشف والتجربة والتمحيص، إنما العكس هو الصحيح، حيث يمكن إثبات بعض القضايا الميتافيزيقية عبر الواقع، مهما كانت مجملة ومعدودة.

من ناحية أخرى، إن الضرورات العقلية الإخبارية تارة تكون كاشفة عن الموضوع الخارجي بنحو من التطابق التام، وأخرى كاشفة عنه وإن لم يشترط مثل هذا التطابق، بل المتوقع عدمه، كالذي يلاحظ مع الحسابات الإحتمالية. إذ يمكن أن نفترض قضية بقيمة إحتمالية عقلية ثابتة، ضمن شروط محددة، لكن لا يلزم عن هذه القيمة التطابق مع ما يجري في الواقع من إختبار. والغالب أن ما يحدث في الواقع لا يطابق القيمة العقلية، ومع هذا تعد هذه القيمة صحيحة وضرورية رغم عدم التطابق المشار إليه، بإعتبار أن القضايا الإحتمالية تنطوي على إمكانات مرنة للظهور تبعاً لما تتأثر به من ظروف الواقع.

ويتبين مما سبق أن الإدراك العقلي تارة يكون مبدعاً ينطلق من عنديات ذاته ليكشف عما في ذاته وما خارجها، وأخرى مستنتجاً، وثالثة يقف وسطاً بين الإبداع والإستنتاج، وذلك كما يلي:

1ـ الإدراك القبلي البحت، كما في المنطق والرياضيات. حيث مجال الصدق فيه كبير. فهو يعتمد على العقل القبلي ولا ينتهي إلى ما وراءه من الإخبار الخارجي، سواء كان العالم الخارجي من القضايا الواقعية أو الميتافيزيقية.

2ـ الإدراك القبلي الإخباري، وهو لا يكون صادقاً ومتطابقاً إلا في قضايا محدودة مجملة، كما في مبدأ السببية. وقد يكون صادقاً من حيث المبدأ القبلي وإن لم يتحتم التطابق مع نتائجه الإخبارية، كالجاري مع الحسابات الإحتمالية. وهناك قضايا أخرى معرّضة للطعن والتشكيك، سواء كان الإخبار فيها عن قضايا واقعية أو ميتافيزيقية، مثل البرهنة على نفي التسلسل، مما لا يعنينا بحثها هنا.

3ـ الإدراك البعدي الإخباري، وهو ما يقبل الصدق، وقد يكون الموضوع المثبت شهودياً أو غيبياً ميتافيزيقياً، لكن الواسطة تتمثل بالواقع أو ما يرتكز عليه.

ويمكن تقسيم الإدراك الأخير منهجياً إلى إدراك إستنتاجي وآخر إضافي. فالأول يكاد يعتمد كلياً على ما يصوره الموضوع الخارجي – كالواقع – دون أن يضيف العقل إليه شيئاً من عندياته لأجل التصديق، إلا بالقدر اليسير جداً، إذ به يتمّ تحويل التصديق من قوته الإحتمالية المتاخمة إلى التصديق التام، استناداً إلى ما يقدّمه الموضوع من دلالات وقرائن متسقة لصالح هذه القوة الإحتمالية. لهذا فالإضافة التصديقية التي يقدمها العقل تكاد لا يكون لها حساب، وإن كان من الناحية المنطقية الرياضية تعبّر هذه الإضافة – بنوع من الإعتبار – عن إضافة اللامتناهي إلى المتناهي رغم قيمتها المتناهية الضآلة.

أما الإدراك الإضافي فنقصد به ما يقدّمه العقل من دلالات إخبارية أو تصديقية كاشفة عن الواقع والتشريع، وليست هي من المستنتجات المنطقية ذات الصفة المنضبطة. لذا يتفاوت هذا الإدراك قوة وضعفاً، فالإضافة القوية تجعل الدلالة مصطبغة بالصبغة العقلية، في حين أن ضعف هذه الإضافة يجعل الدلالة موضوعية، سواء كانت واقعية أو نصية. وبالتالي فنحن نميز بين القضية العقلية وما يقابلها من القضيتين الواقعية والنصية؛ استناداً إلى مقدار الإضافة العقلية قوة وضعفاً، لأن العقل في القضايا البعدية – وفي جميع الأحوال – يداخل غيره من الموضوعات كالنص والواقع، وليس بالإمكان التمييز بين نشاطه الخاص والموضوع المدرَك إلا بنحو ما يفرزه من الإضافة التصديقية. ففي القضايا الإستقرائية تكون الإضافة العقلية ضعيفة، إذ تتخذ دور الجامع لمقادير الدلالات التي تفرزها هذه القضايا. بينما في القضايا غير الإستقرائية؛ مثل قضايا الاستدلال بالشاهد على الغائب والقياس التمثيلي وما اليهما، تكون الإضافة العقلية قوية، مما يجعل هذه القضايا أقرب إلى العقليات، وإن اعتمدت على نص أو واقع، ما لم تكن هذه الموضوعات ذات قوة إحتمالية كبيرة، إذ ستطغى عليها الصبغة الموضوعية أكثر من الصبغة العقلية.

وفي هذا السياق نستنتج أنه لا يمكن للقضية البعدية الإخبارية أن تستغني عن تحكم القضية العقلية القبلية. وعلى العموم لا يمكن بناء قضية واقعية دون استناد للضرورات القبلية. فالبعدي يحتاج إلى القبلي بالضرورة، في حين لا يلزم العكس، كالحال مع الحسابات الرياضية، وهي عقلية محضة. وفي جميع الأحوال لا يمكن الإستغناء عن تحكم المبادئ القبلية الضرورية في القضايا البعدية، مباشرة وغير مباشرة.

لكن قد يقال: كيف يصح ذلك ونحن نعلم أن الفرد منا يولد وهو يخلو من مطلق المبادئ القبلية قبل اتصاله بالواقع الخارجي. فهل يجوز القول أن القبلي يتوقف تصديقه على صدق البعدي، وبالتالي نقلب ما سبق تقريره؟

لقد سبق لنا معالجة هذا الموضوع، واعتبرنا التصديق بالقضايا القبلية يمر بمرحلتين، أُولاهما واقعية والأخرى منطقية. حيث تبدأ المرحلة الواقعية عند الصغر، فتنشأ لدينا بفعل العادة إنطباعات نفسية لمختلف المعارف العقلية والحسية. وتظل هذه المعارف لا تعبّر في هذه المرحلة عن المدركات المنطقية التي تراعى فيها القضية كما هي. فالطفل منّا يولد وهو يرى الأشياء على ما هي عليه، وأنها تتغير نتيجة أسباب معينة، وهذا الحال يطبع في ذهنه – بلا شعور – الإعتقاد بأن كل شيء على حاله ما لم يغيره شيء، وأن كل ما يتغير إنما يتغير طبقاً لسبب.. وبهذا ينشأ الإنطباع النفسي لحالة السببية لدى الطفل. وبه يتضح أن المعارف العقلية تنشأ في البداية على شكل إنطباعات نفسية شبيهة بالمصادرات من وجه، فهي ليست قائمة على الدليل، ولا على الوضوح العقلي وضرورته المنطقية، بل حتى الاستدلال في البداية ينشأ على سبيل الإنطباع والعادة دون الأحكام المنطقية[24].

إذاً تتصف هذه المرحلة بالمواصفات التالية:

1ـ تتميز المعرفة في نشأتها الأولى بأنها إنطباعية نفسية لا شعورية، وهي شبيهة بالمصادرات من وجه.

2ـ إن العوامل التي تجعل من هذه المعرفة إنطباعية؛ هي كل من العادة والتأثير الإجتماعي، ومثله المحفزات الخارجية ذات الأثر الحاد على نفس الإنسان.

3ـ إن المعرفة الإنطباعية للمبادئ العقلية تأتي متأخرة زماناً عن سائر المعارف المتعلقة بوجود الأشياء[25].

أما المرحلة الأخرى التالية فتتصف بما للفرد من قدرة على التصور التجريدي والمنطقي للقضايا، فيدرك فكرة الضرورة والكلي وإرتباط القضايا وتوقف بعضها على البعض الآخر. وهنا باستطاعته إدراك لزوم قيام المعرفة على بعض القضايا الأولية كمبدأ عدم التناقض.

على هذا فمن الناحية المنطقية يتعذّر قيام القضية الواقعية وغيرها من القضايا الإخبارية من غير الإعتماد على القضية العقلية القبلية.

هكذا فمن حيث الحاكمية والتمييز بين الدلالتين العقلية القبلية والواقعية؛ يلاحظ أن للعقل نظامه في التحكم، بفعل المبادئ الضرورية القبلية. لكن في غير الضرورات فإن للواقع القدرة على تغيير القناعة العقلية، بحيث أن التعارض بينهما يدفعنا إما إلى تأويل فهم الواقع إن أمكن ذلك، أو تخطئة العقل، ولا معنى للقول بجواز خطأ الواقع. إذ للأخير حقائقه سواء استطعنا إدراكها أم لم نستطع، رغم أن هذا الإدراك لا يكون إلا من خلال العقل ذاته. مع هذا فإن حالات التفاعل والجدل بين معطيات العقل والواقع تجعلنا نميز بينهما ونكتشف ما يمكن أن يطرأ عليهما من تعارض.

وبهذا نخلص إلى أن كلاً من الإدراكين القبلي والبعدي ينقسم إلى قسمين كما يلي:

1ـ الإدراك القبلي البحت.

2ـ الإدراك القبلي الإخباري.

3ـ الإدراك البعدي الإستنتاجي.

4ـ الإدراك البعدي الإضافي.

وعلى ضوء هذا التقسيم يكون القسمان الأولان من القضايا العقلية البحتة. بينما يندرج القسم الثالث ضمن قضايا الموضوع الخارجي، كالواقع مثلاً. في حين يتفاوت القسم الرابع بين أن يطغى عليه التأثير العقلي فتكون قضيته عقلية، أو التأثير الموضوعي فتكون قضيته موضوعية. وبالتالي يتصف هذا القسم بالنسبية بإعتباره محل تداخل بين قضيتين أو أكثر.

من جانب آخر، تتفاوت القضية المعرفية في درجة صدقها وقيمتها، بغض النظر عما إذا كانت عقلية أو موضوعية، وذلك بحسب المراتب التالية:

فهي إما أن تكون ضرورية كالبديهيات، أو قطعية وإن لم تصل إلى حد الضرورات كالحسيات، أو حدسية بحيث لا تجد إحتمالاً معقولاً في قبالها، أو عادية إطمئنانية كما عليه سيرة العقلاء في معاملاتهم وعلاقاتهم، حيث الإحتمال المقابل ضعيف لا يعتد به، أو ظنية يقابلها إحتمال ضعيف يعتد به، أو شكية، أو وهمية لها درجات مختلفة تتقابل مع الظنية والعادية والحدسية، أو منفية تقابل القطعية، أو مستحيلة تقابل الضرورية. إذاً فمراتب الإدراك كما يلي:

1ـ الضرورات

2ـ القطعيات

3ـ الحدسيات

4ـ العاديات

5ـ الظنيات

6ـ الشكيات

7ـ الوهميات

8ـ المنفيات

9ـ المستحيلات

***

يتبين مما سبق أن الكشف عن القضايا البعدية يعتمد على معرفة الواقع والإرتكاز عليه. فهو في حد ذاته يمثل مقياس الحقيقة، وبالتالي فالإصطدام به يكشف عن خطأ القضية أو الإدراك.

نعم، يتعذّر على الواقع الإستغناء عن كاشفية العقل، فلا سبيل لغيره للإطلاع والمعرفة. لكن مع ذلك فمقياس الحقيقة لا يعود إلى العقل أساساً، إذ يمكن التشكيك في قيمه إذا ما استثنينا مبدأ عدم التناقض وسائر الضرورات المنطقية الأخرى، كما يمكن التشكيك في قيم النص أو غيره، أما الواقع فلا يمكن التشكيك في قيمته الذاتية كوجود، فهو ليس مورداً للصواب والخطأ، بل هو مقياس ذلك.

فمثلاً تتعارض الإعتبارات العقلية لقضية الجزء أو الجوهر الفرد تبعاً لإختلاف المدارس المعرفية ومواقفها. فقد اتجه الفلاسفة الأرسطيون ومن اتبعهم إلى إعتبار كل جزء يقبل التجزئة بلا نهاية ولا إنقطاع. في حين خالفهم المتكلمون من المسلمين ورأوا أن نهاية التقسيم تصل إلى جوهر فرد لا يقبل التجزئة، وهو ما أطلقوا عليه (الجزء الذي لا يتجزأ). رغم أن الجدل الدائر بين الطرفين هو جدل من النمط العقلي القبلي الإخباري الذي يتوقف التحقيق فيه على ما يفرزه الواقع من حقيقة، سواء كان لصالح الفلاسفة، أو المتكلمين، أو حتى على خلافهم جميعاً كالذي تفيده تطورات الفيزياء الحديثة. وبالتالي لا يمكن الإعتراض على مفاد الواقع بحجة مخالفة العقل، في حين يمكن الإعتراض على العقل القبلي الإخباري بحجة مخالفته للواقع.

وهناك شبهة، كتلك التي تضمنتها فلسفة (عمانوئيل كانت)، إذ اعتبر هذا الفيلسوف الالماني أن الأشياء الخارجية يجب أن تكون موافقة ومحددة بحسب ما عليه كشف عقولنا وطبيعتها دون عكس. فبحسب هذه النظرية ليس الكشف العقلي هو ما يجب أن يكون موافقاً ومحدداً تبعاً لما عليه الموضوع الخارجي، وذلك لإحتواء العقل قوالب وقضايا قبلية هي التي تضفي على الأشياء مظهرها. فمثل هذه المسألة كمثل شخص يولد وعلى عينيه نظارة زرقاء؛ إذ سوف لا يرى العالم إلا بلون أزرق ويتوهم أنه كذلك دون معرفة حقيقة ما عليه العالم. فالتحديد إنما كان بفعل النظارة لا العالم الخارجي. وكذا هو الحال مع علاقة الإدراك بالموضوعات الخارجية، فالعقل والحواس مصممان ضمن أُطر محددة هي التي تضفي على الأشياء ما تبدو لنا، وليس بالإمكان معرفة ما عليه العالم الخارجي في ذاته طالما أن الإدراك لا يكون إلا عبر القوالب الإدراكية المحددة، كالزمان والمكان والسببية وغيرها. فتلك هي ثورة (كانت) في الفلسفة، وقد شبهها بالثورة الكوبرنيكية على صعيد علم الفلك. مع أن مبررات (كانت) اعتمدت على ما تصوره من وجود تناقض في عدد من الأشياء خُيّل إليه أنها من اختراع العقل وليس لها وجود حقيقي؛ كقضايا الزمان والمكان، إذ تصور أنه لا يمكن إعتبارهما متناهيين ولا غير متناهيين للإشكالات التي اعتقدها بهذا الصدد، وكذا هو الحال مع علاقة السببية فظن أنه لا يمكن حل مشكلة السلوك البشري عبر افتراض السببية، ولا تبعاً للحرية التي يشعر بها الإنسان، فمثل هذه التعارضات جعلته يسلّم بوجود واقع حقيقي مجهول ومتسق ليس فيه تناقضات موهمة ومستعصية على الحل. مع أنه لو كانت هناك تناقضات فعلاً لدلّ الأمر على العجز العقلي للإدراك دون حاجة لإفتراض عالم حقيقي آخر بديلاً عن العالم المشهود.

فإذا كان من الصحيح أن إدراكاتنا الحسية لكيفيات الأشياء الخارجية متأثرة تماماً بما عليه جهازنا الحسي، وبالتالي جاز أن تظهر بأشكال شتى بحسب طبيعة هذا الجهاز، فإن الأمر لا ينطبق على إدراكنا لعلاقات الأشياء، كالسببية. فما ندركه مثلاً على أنه سبب وسابق لغيره لا يمكن أن يكون في نفس الوقت لاحقاً ومسبباً من قبل ذلك الغير. وإذا كان الواقع هو الذي عرّفنا بالإدراكات الممكنة لكيفيات الأشياء طبقاً للأجهزة الحسية المختلفة – ومنه مثال النظارة -؛ فكذلك أنه لا يشير، لا من قريب ولا من بعيد، إلى أي إدراك ممكن آخر غير ما ندركه لعلاقات الأشياء. وبالتالي فلسنا مضطرين لإفتراض واقع آخر للعلاقات يتضارب في طبيعته وأحكامه النسبوية عن العالم المشهود. مما يعني أن من الممكن استكشاف بعض الحقائق الموضوعية في الأشياء، كما يمكن إثبات هذه الأشياء – نسبياً – عوضاً عن الزعم (الكانتي) الذاهب إلى أن الشروط القبلية لا تمتلك موضوعية خارجية بالضرورة، وهو ما يجعل الشيء في ذاته عصياً عن التحديد والمعرفة. رغم أن بهذه الشروط استطاع (كانت) أن يثبت لنا الشيء في ذاته، كإستعانته بمبدأ السببية. فإذا كنا ندرك ظواهر الأشياء كشيء لذاتنا فما الذي يدعونا للإعتقاد بوجود شيء في ذاته إن لم نستند الى مبدأ السببية؟! وعليه كيف جاز لنظرية (كانت) أن تعد هذا المبدأ مفصولاً عن الواقع الموضوعي مع أن به تقرر ذلك الواقع، وبدونه يستحيل إثبات الشيء في ذاته[26]؟!

***

ننتهي مما سبق إلى أن الدلالة العقلية عندما تعبّر عما أطلقنا عليه (العقل القبلي غير الإخباري) فإنها لا تشكل مورداً للنزاع والصدام مع الواقع. إذ لا علاقة لوظيفة هذا العقل بالإخبار عن الواقع الخارجي، وبالتالي فهو ليس محلاً للتعارض والنزاع مع دلالته، فكل منهما يسير في إتجاهه الخاص بلا تقاطع ولا تعارض. لكن تتمثل الحالة التي يمكن أن يتولد فيها التعارض والتضاد مع دلالة الواقع بتلك التي تنتمي إلى ما أطلقنا عليه (العقل القبلي الإخباري). فوظيفة الأخير هو الإخبار القبلي عن الموضوع الخارجي، وبالتالي جاز أن يكون إخباره مصادماً لما تدل عليه الدلالة الواقعية البعدية، وفي هذه الحالة لا مجال لترجيح الأولى على الثانية، إذ لا معنى لأحقية الدلالة الإخبارية إلا لكونها تتطابق مع الموضوع الخارجي كالواقع. وبالتالي جاز إعتبار الواقع الأساس المعتمد عليه لتقييم ما يصادره العقل القبلي الإخباري. وهو بهذا المعنى يكون حاكماً ومقياساً للحقيقة. فهو أحق حقيقة من غيره في الفهم وتأسيس النظر.

على أن ذات ما قدرناه ينطبق على النص في مقارنته بالواقع، فيجري النص مجرى العقل القبلي، إذ تارة لا يخبر عن الواقع بشيء وبالتالي لا مجال للتعارض معه، وأخرى يخبر عنه فتترجح بذلك دلالة الواقع عند التعارض؛ مما يقتضي العمل على توجيهه الوجهة القريبة إن أمكن ذلك، أو ايكال علمه إلى الله تعالى، أو يتم طرحه عندما لا يكون قطعي الصدور.

وعلينا أن نميز بهذا الصدد بين الواقع كحاكم وكمحكوم. فهو حاكم على ما سواه عندما يكون مصدراً للحقائق الموضوعية، سيما حين التعارض. أما عندما يكون كاشفاً عن الحقوق والمصالح فإنه يكون محكوماً، إذ يحقق ما تبتغيه المقاصد الكلية العامة من ترجيح هذه القيم على أضدادها عند التعارض. وعليه تكون المقاصد حاكمة على الواقع، إذ قد تعمل على تغييره عندما يكون حاملاً لصور الضرر والفساد.

لكن للنص إعتباراً آخر حين مقارنته بالعقل، فهو أشبه بالواقع الذي يفرز الدلالة البعدية، وأن للعقل في القبال دلالتين؛ إحداهما قبلية لا إخبارية، وأخرى قبلية إخبارية، أي أنها تخبر عما يفترض أن يكون عليه النص من محتوى معنوي. لذلك قد تتوافق الدلالة القبلية الإخبارية مع الدلالة البعدية للنص، كما قد تتعارض معها، مثلما جرى عليه التأويل لدى النزعات العقلية للفكر الإسلامي، وهو ما حفّز النزعات البيانية للتصدي لها ومناهضتها؛ دفاعاً عن الدلالة البعدية قبال الدلالة القبلية، كالذي مارسته المدرستان التيمية والإخبارية[27].

الخطاب والحجج الثلاث 

كيف نعرف أن النص حجة ملزمة يجب التمسك به والإمتثال له عندما يدل على الأمر والنهي؟ فلو قيل أن حجيته نابعة من الله تعالى؛ لقلنا كيف دلّ ذلك؟ فلو قيل أنه من خلال ما أفاده النص؛ لوقعنا بالدور. ولو قيل أن حجيته بذاته لا غير، حيث ذاته كاشفة عما فيه، لإقتضى أن يكون كل نص لغوي يتضمن الأمر والنهي دالاً على الإلزام والحجة، وهو غير صحيح. ولو قيل أن حجيته نابعة عن الدليل العقلي الصرف، لكان غير صحيح أيضاً، فالعقل في حد ذاته – كمصدر قبلي – لا يدرك هذه الحجية للنص.

وبذلك لا يبقى لنا إلا القول بأن حجية النص هي رهينة النظر إلى الواقع، وبالذات واقع النبوة وما تتلبّس به من حالات كاشفة، كتلك التي يطلق عليها (المعجزة)، استناداً إلى منطق الإحتمالات وقرائن الإستقراء الدالة على صدق الرسالة. فإثبات الرسالة يثبت حقانية النص، فيكون النص حجة لتوقفه على صدق الرسالة، وأن صدقها متوقف على النظر إلى واقعها وما عسى أن تدل عليه طبقاً للإحتمالات والقرائن الإستقرائية، كأي قضية واقعية أخرى، كالذي كشف عنه المفكر محمد باقر الصدر في كتابه (المرسل/ الرسول/ الرسالة).

مع هذا نجد نصوصاً دينية كثيرة تحث على النظر إلى الواقع والإفادة منه والإعتبار به. ولا يمكن إعتبار ذلك دليل حجية الخطاب على الواقع، لتوقف صدق الأول على الأخير كما عرفنا. فلو أننا قلنا بالمقولتين معاً لوقعنا بالدور ما لم نبنِ ذلك على نوع من الفصل بين القضايا، فنعتبر مثلاً أن حجية الخطاب متأسسة على بعض قضايا الواقع، في حين تتوقف حجية سائر قضايا الأخير على دلالة الخطاب أو النص. وهي صيغة سبق لإبن تيمية أن طرح مثلها رداً على النزعات التي إتخذت من العقل أساساً لحل القضايا التي إعترضتها بإطلاق[28]، فعيبها وقصورها كونها لم تتفق على طبيعة القضايا العقلية التي عوّلت عليها، ولم يتبين منها الطابع المنطقي أو حتى الوجداني لإتخاذها أساساً لبناء القضايا الإسلامية وتأويل النصوص. لهذا كانت موضع نقد واتهام من قبل الإتجاهات البيانية، سواء في الساحة السنية أو الشيعية.

لكن الأمر يختلف – هنا – كلياً. فمن الممكن أن تصدق الشبهة السابقة فيما لو كان الإعتماد على الواقع منفصلاً عن الأساس المنطقي الكاشف عن حقانيته، وهو القرائن المعتبرة من الإستقراء والحساب الإحتمالي. فباستثناء القضايا الوجدانية الصرفة؛ ليس للدلالة الواقعية من قيمة إلا بما تستمده من قدر معتبر من القوة المعرفية كما يبينها الكشف الإستقرائي والحساب الإحتمالي. وينطبق هذا الحال حتى على فهم النص واستلهام ما يبديه من حجج لفظية.

ففرق الدلالة واضح بين أن يبديها نص واحد حول قضية معينة، وبين أن تبديها نصوص عديدة حول نفس القضية، إذ لا شك أن فهمنا لعدد من النصوص يكون أقوى وأوسع من فهمنا لواحد منها، وذلك إذا ما افترضنا أن قوى الدلالة تتساوى من نص إلى آخر. وبالتالي فرفض الدلالة الواقعية بالمعنى السابق سوف يؤول إلى رفض دلالة الخطاب؛ طالما أن الأساس المعرفي لديهما واحد، وهو وجود القرائن الدالة على معنى معين دون غيره، كما يظهره منطق الإستقراء والإحتمالات. لذلك فإن الإشارات القرآنية الكثيرة الداعية لحثّ العقول على ممارسة التفكير والتأمل في سنن الله وخلقه ومن ثم اقتناص الحقائق الكبرى منها؛ كل ذلك إنما جاءت منبهة على حجية الواقع بالمعنى المشار إليه، لا أنها تدل على هذه الحجية. فمما جاء بهذا الصدد قوله تعالى:

((أو لم ينظروا فـي ملكـوت الـسماوات والأرض وما خلـق الله من شيء))[29].. ((أفلا ينظرون إلى الإبل كـيف خُـلـقت، وإلى الـسماء كـيف رُفعت، والى الجبال كيف نصبت، والى الأرض كيف سُطحت))[30].. ((ويتفكرون في خلق السماوات والأرض..))[31].. ((سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم))[32].. ((ومن آياته خلق السماوات والأرض وإختلاف ألسنتكم وألوانكم أن في ذلك لآيات للعالمين))[33].. ((ألم ترَ إلى ربك كيف مدَّ الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً، ثم قبضناه الينا قبضاً يسيراً))[34].. ((ألم ترَ أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخّر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى))[35]… الخ.

ونشير إلى أن إبن رشد سبق أن إستند إلى مثل هذه الآيات ليدلل على حجية المنطق والمقاييس البرهانية شرعاً، بفرض قراءة الكتب الإغريقية القديمة[36]، رغم أن هذه الآيات تنبه على حجية ‹‹الواقع›› لا المنطق بشكله الصوري المألوف. كذلك إستفاد المفكر محمد اقبال من هذه الآيات ليستدل بها على حجية ‹‹الواقع›› الذي عبّر عنه بالتجربة والنظر في فهم ظواهر الكون واستنطاق الأنفس والآفاق والإعتبار من أخبار الأولين وغير ذلك من المصادر الهامة للمعرفة، مما يشكل إعترافاً بقيمة النشاط العقلي المستند إلى الواقع ونظام الخلقة[37].

***

أخيراً يبقى أن نقول بأن الدلالة الواقعية لا تنفصل – كما عرفنا – عن الإعتبارات العقلية من أمثال حسابات الإحتمال وما إليها، كذلك فإنه لا معنى للدلالة الواقعية دون الكشف العقلي. فبالعقل تتبين الدلالة الواقعية وتتكشف، وليس لنا من طريق آخر للواقع أو لغيره دون العقل وكشفه. لكن مع هذا فهناك تفاوت بين العقلين القبلي والبعدي. وسبق أن عرفنا بأنه لا يصح الإعتماد على العقل القبلي في كشف القضايا الإخبارية إذا ما استثنينا الصور الضرورية والوجدانية مما لا يمكن دحضها عبر العقل البعدي؛ سواء كان الأخير معبّراً عن دلالة الواقع أو غيره.

لذا فالممارسة العقلية مطلوبة ضمن الحدود السابقة، وأن الخطاب يمتدح هذه الممارسة ويراها حقة مفضية إلى الصواب في الكثير من المواقف. كما أن عدداً من النصوص ينضبط فهمها إعتماداً على دلالة العقل، كالذي جاء في قوله تعالى: ((إن الله على كل شيء قدير))[38]. فمن الواضح بدلالة العقل أنه لا يفهم من الآية الإطلاق فتكون القدرة متعلقة بكل شيء بما في ذلك المستحيلات، كخلق الشريك في الإلوهية، أو خلق التناقض وجعل الواحد المضاف إلى آخر مثله لا يساوي اثنين، وجعل الجزء أعظم من الكل كما تُصوّره بعض الروايات[39].

ومثل ذلك ما جاء في قوله تعالى: ((قل الله خالق كل شيء))[40]، فبدلالة العقل لا يمكن أن يكون علمه وقدرته وسائر صفاته الذاتية داخلة في خلق الله، كالذي أشار إليه الإمام أحمد إبن حنبل وهو في معرض نفي أن تكون الآية دالة على خلق القرآن أو كلام الله [41].. إلى غير ذلك من النصوص.

****************

 


[1] انظر حول المقارنة بين الخطاب والنص: القانون الرابع ضمن القسم الثالث من: منطق فهم النص.

[2] جاء عن الإمام الصادق (ع) قوله: ‹‹إن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق وغير أزلي مع الله تعالى.. كان الله عزّ وجل ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول، كان عزّ وجل ولا متكلم ولا مريد ولا متحرك ولا فاعل.. فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه.. والقرآن كلام الله غير مخلوق..›› (ابو جعفر الصدوق: التوحيد، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، ص277). وفي حديث آخر وردت لفظة مخلوق بمعنى مكذوب (المصدر، ص225).

[3] الأشعري، أبو الحسن: الإبانة عن أصول الديانة، دار الكتاب العربي في بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ ـ 1985م، ص40 وما بعدها.

[4] الرازي: أصول الدين، راجعه وقدم له وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، 1404هـ ـ 1984م، ص66.

[5] المستصفى من علم الأصول، المطبعة الأميرية في مصر، الطبعة الأولى، 1322هـ، ج1، ص122.

[6] هناك عدد كبير من الروايات الكاشفة عن حالة نسخ التلاوة كما نقلها المحدّثون وسلّم بها أهل السنة عموماً، سيما وأن بعضها ورد في كتب الصحاح. وقد أُعيد اليوم طرح القضية من جديد بإعتبارها مسألة شائكة ربما يكون الطعن فيها طعناً في الحديث جملة، في حين أن قبولها بنظر جماعة هو قول بالتغيير والتحريف، وهو ما وظفه بعض المحدّثين لأغراض مذهبية (لاحظ بهذا الصدد: العسكري، مرتضى: القرآن الكريم وروايات المدرستين، الكتاب الثاني، شركة التوحيد للنشر، الطبعة الأولى،1417هـ ـ 1996م).

[7] أبو جعفر الطوسي: التبيان في تفسير القرآن، مقدمة المحقق آغا بزرك الطهراني، دار إحياء التراث العربي ببيروت، ج1، ص394 و 398.

[8] الأنفال/65.[9] الأنفال/66.[10] المجادلة/1.[11] لقمان/27.

[12] محمد باقر الخوانساري: روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، الدار الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ ـ 1991م، ج4، ص291.

[13] السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ج2، ص1005.

[14] أبو عبد الله المفيد: أوائل المقالات، دار المفيد، الطبعة الثانية، 1414هـ ـ 1993م، ص63.

[15] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الكاتب العربي، مصر، الطبعة الثالثة، 1387هـ ـ 1967م، ج1، ص67.

[16] الإتقان، ج2، ص1005.

[17] جرت عدد من المناقشات بين اينشتاين وممثل نظرية الكوانتم (بوهر) بمعية الكثير من العلماء المساهمين حول عدد من قضايا هذه النظرية، كان أبرزها صفة الإحتمال في الجسيمات المجهرية إن كان لها خاصية واقعية أم لا؟ وكانت هذه المناقشات على ثلاث مراحل، بدأت منذ سنة 1927 واستمرت حتى سنة 1949 (انظر: ايلاريونوف: جدل اينشتاين ـ بوهر، ضمن كتاب: اينشتاين والقضايا الفلسفية لفيزياء القرن العشرين، لمجموعة من الباحثين، ترجمة ثامر الصفار، الاهالي للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الاولى، 1990م، عن مكتبة المصطفى الالكترونية www.al-mostafa.com ص63ـ66. كما انظر: رولان أومنيس: فلسفة الكوانتم، ترجمة أحمد فؤاد باشا ويمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، عدد 350، الكويت، 2008م، ص201ـ202).

[18] انظر حول ذلك: القسم الرابع من: منطق فهم النص.

[19] انظر بهذا الصدد الفصل السابع من كتابنا: العقل والبيان والإشكاليات الدينية، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2010م.

[20] فيليب فرانك: فلسفة العلم، ترجمة علي علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1983م، ص364 وما بعدها. كذلك يحيى محمد: مدخل إلى فهم الإسلام، الخاتمة.

[21] لاحظ: القسم الثالث من: مدخل إلى فهم الإسلام.

[22] يلاحظ بهذا الصدد ما قررناه ضمن الفصل الأخير من كتابنا: الإستقراء والمنطق الذاتي، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الأولى، 2005م. والاسس المنطقية للإستقراء/ بحث وتعليق، طبعة نمونة، قم، ص243 وما بعدها.

[23] فمثلاً قد يقال في إثبات الصدق الإلهي بأنه يمتنع على الله تعالى الكذب بإعتبار أن القضية عائدة إلى كلامه تعالى وهو من الصفات الذاتية كما تقول الأشاعرة. لكن المشكلة هي أنه لا برهان على كونه من الصفات الذاتية، وقد اضطرت الأشاعرة إلى هذا التقرير كي تصحح مسألة إثبات الرسالة والمسألة الدينية كما عرفنا. يضاف إلى أنه حتى مع افتراض كون الكلام من الصفات الذاتية، فما الذي يمنع من أن يكون كاذباً بلا صدق، أي أنه اخبار بما لا يطابق حقيقة الأمر والواقع؟

كما قد يقال في إثبات هذه القضية بأن الله صادق لأن الكذب قبيح، وهو منزه عنه لغناه وعدم حاجته إليه. مثلما ذهب إلى ذلك المعتزلة والزيدية والامامية الإثنا عشرية. وهي قضية يناقش فيها من جانبين: الأول ليس كل كذب يعد من القبائح، بل قد يحسن ويجب في العديد من المواقف. والثاني أنه حتى مع التسليم بقبح الكذب مطلقاً؛ فذلك لا يلزم عنه بالضرورة امتناع ممارسته ممن لا يحتاج إليه. لكن مع هذا تظل أن ممارسة القبيح مستبعدة تماماً من جهة الاله لعدم الحاجة والإضطرار إليه، بحكم الوجدان العقلي وليس بفعل اللزوم والضرورة.

[24] انظر كتابنا: دور اللاشعور في الحياة، طبعة نمونة، قم، ص65.

[25] المصدر السابق، ص66.

[26] انظر حول مناقشة نظرية كانت: منطق فهم النص، القسم الثاني.

[27] انظر القسم الثالث من: مدخل إلى فهم الإسلام. والفصل الثامن من: العقل والبيان والإشكاليات الدينية.

[28] المصدر السابق.

[29] الأعراف/185.

[30] الغاشية/17ـ20.

[31] آل عمران/191.

[32] فصلت/53.

[33] الروم/22.

[34] الفرقان/45ـ46.

[35] لقمان/29.

[36] إبن رشد: فصل المقال، تقديم وتعليق البير نصري نادر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1961م، ص27ـ 29. كذلك كتابنا: نقد العقل العربي في الميزان، دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2008م[37] تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص144ـ 145

[38] البقرة/148[39] جاء في (الكافي) للكليني أن هشام بن الحكم سأل الإمام الصادق (ع) عن قول الزنادقة له: أيقدر ربك يا هشام على أن يدخل الدنيا في قشر البيضة من غير أن يصغر الدنيا ولا يكبر قشر البيضة؟ فأجاب الصادق بقوله: يا هشام انظر أمامك وفوقك وتحتك واخبرني عما ترى. قال هشام: أرى سماءً وأرضاً وجبالاً وأشجاراً وغير ذلك. فقال الصادق: الذي قدر أن يجعل هذا كله في مقدار العدسة، وهو سواد ناظرك، قادر على ما ذكرت. وقد استشكل الشريف المرتضى هذه الرواية واعتبر مفادها هو تجويز المحال (رسائل الشريف المرتضى، اعداد مهدي رجائي، تقديم واشراف أحمد الحسيني، نشر دار القرآن الكريم في قم، 1405هـ، ج1، ص4

[40] الرعد/16.[41] علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، الطبعة السابعة، 1977م، ج1، ص284.

 

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…