إدارة الملفات أم تدبيرها؟
قضايا المغرب ترتحل من عام لآخر دون تغيير يُذكر
بقلم : محمود معروف – الرباط–
عن موقع سويس ءانفو..swissinfo.ch
تذهب سنة 2013 المغربية تاركة بصماتها على مستقبل البلاد، بعد أن مسّت بالعمق قضايا لم يكن من السّهل الإقتراب منها قبل ذلك، رغم عدم وجود حظر قانوني يحول دونها، لكنها الأعراف السياسية والاجتماعية والخطوط الحمراء التي تُوضع بالأذهان ولا يُمكن تبديدها إلا بواسطة المزيد من القوانين الواضحة والحريات، التي تصبح طبيعية وغير مفتعلة، وتُمارس دون أن يضطر المرء للتثبت في كل مرة من “الحدود” و”الضوابط”.
في المغرب، ومنذ عقود، هناك قضايا مطروحة لم تعرف طريقها للحلّ، لكنها تأخذ في كل سنة منحى نحو الحلحلة أو التعقيد. في الوقت نفسه، تُوحي المتابعة لكيفية التعاطي مع هذه القضايا وملفّاتها العديدة، أن المعنيين بها يتولّون إدارتها لا تدبيرها.. لذلك، فهي تنتقل من عام إلى آخر، تُراكم أو تُضيف نِقاطا إيجابية أو تبدّد نقاطا أضيفَت أو اكتسبت خلال السنوات الماضية.
لكن السِّمة الرئيسية لسنة 2013 المغربية، هي الإنتظارية، إذ لا زال المغرب يعيش على الإنتظارات التي أوجدها الحِراك المغربي سنة 2011 في سياق الربيع العربي، وما أفرزه من إصلاحات دستورية وسياسية، تنتظر القوانين التنظيمية لتنزيلها وتُصبح جزءا من منظومة المشهد السياسي المغربي.
فالحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، ذو المرجعية الاسلامية، الفائز بانتخابات 2011، لا زالت لم تقترب ممّا منحها لها الدستور الجديد من اختصاصات وصلاحيات، بل إنها تنازلت طوعا في القوانين التنظيمية لتحديد الإختصاصات لصالح الملك عن اختصاصات لها، فيما تتّهمها المعارضة بأنها لا زالت تدبّر الشأن العام وِفق دستور 1996 لا دستور 2011.
في الوقت نفسه، عانت الحكومة وأغلبيتها، على مدى خمسة أشهر من أزمة داخلية، أفقدت مكوِّناتها الحزبية الكثير من مصداقيتها، بعد أن استفحلت أزمة بين حزب العدالة والتنمية وحزب الإستقلال، الذي قرّر الإنسحاب من الحكومة وأغلبيتها في شهر مايو ثم بقي تنفيذ القرار معلّقا حتى يوليو، لينتظر المغاربة حتى شهر أكتوبر لمعرفة نتيجة المفاوضات بين العدالة والتنمية والتجمّع الوطني للأحرار، الذي أصبح بديلا عن حزب الاستقلال.
وبغضّ النظر عن كواليس المفاوضات وإكراهاتها، فقد أدى التأخير في الإعلان عنه الحكومة الجديدة إلى تعرضه للإنتقاد من طرف العديد من الأطراف (ومن ضمنها الأحزاب المشاركة فيها) بعد أن ظلت البلاد طيلة خمسة أشهر بدون حكومة ما أشعر المواطن أن البلاد “يُمكن أن تسير بحكومة أو بدونها”، كما انعكس التأخير على الإستثمارات الخارجية، إذ أنه ليس من اليسير الإستثمار في بلد تُسيّره حكومة عرجاء.
ثلاثة أعوام من الكرّ والفرّ
المَلكيات العربية تعاطَـت مع تداعيات “الربيع العربي” بالقوة
منذ ثلاث سنوات، تُطوّق الثورات والإحتجاجات، الخارطة العربية من سلطنة عُمان في أقصى الشرق إلى موريتانيا في الغرب. ومع أن مركز الزلازل الإجتماعية، ظل متمحورا في المنطقة الوسطى، أي بين سوريا ومصر وليبيا وتونس، إلا أن هزّاته الإرتدادية، طالت منطقة الخليج والممالك العربية، التي بدت في بواكير الربيع وكأنها في منأى عن تلك الهزّات. […]
انتقادات واحتجاجات
بعد تشكيلة الحكومة الثانية لبن كيران، ارتفعت حدة الإنتقادات لتوسيعها وزيادة حقائِبها وأيضا إضافة حقائب للامنتمين أو ما يُطلق عليهم مغربيا بوزرات القصر، حيث أضيف للحقائب التقليدية، حقيبة التجارة والصناعة وحقيبة التربية الوطنية، بعد إعلان العاهل المغربي الملك محمد السادس في خطاب العرش الصيف الماضي عن “أزمة التعليم”.
في الأثناء، عاشت الساحة المغربية على وقع تصريحات نور الدين عيوش، وهي شخصية مُثيرة للجدل تملك شركة إعلانات، الذي فتح “معركة اللّغة العربية” حيث اعتبرها المسؤولة عن أزمة التعليم ودعا إلى استخدام اللّهجة الدارجة في المدارس بدلا منها. وفي خِضم الجدال والنقاش والتخوّفات من أن تكون جهات عُليا تقِف وراء هذه المعركة، تدخَّل المفكِّر المغربي الكبير عبد الله العروي منافحا عن اللغة العربية ونافيا أن تكون سببا في أزمة التعليم في البلاد التي عانى منها المغرب منذ عام 1980 تاريخ فتح هذا الملف.
الإنتظارية، انعكست أيضا على الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية بالبلاد، التي كانت حكومتها قرّرت في وقت سابق تخفيض مساهمتها في الإستثمارات وتقليص مناصب الشغل، مما أدّى لارتفاع نسبة البطالة وتكثيف العاطلين عن العمل لاحتجاجاتهم التي تعددت مظاهرها على مدى السنة، بالإضافة لمسيراتهم ووقفاتهم الإحتجاجية اليومية قبالة مقر البرلمان في الرباط.
وبعيدا عن الحكومة وملفاتها، عرفت سنة 2013 قضية العفْو الملكي عن “البيدوفيل” الإسباني دانييل كلفان الذي كان يقضي حُكما بالسجن لمدة 30 عاما بعد إدانته باغتصاب 14 طفلة وطفلا مغربيا بمدينة القنيطرة، شمال الرباط، في إطار عفو ملكي عن مساجين إسبان بالسجون المغربية. وقد هزّ العفْو عن كالفان المجتمع المغربي واثار نقاشا ساخنا، في ظل صمْت الحكومة ووزرائها والأحزاب وحتى الجمعيات التي تنشط في حماية الطفولة.
القصر الملكي أدرك بضرورة التحرّك السريع لتطويق الخطإ الذي حدث، فأعلن بداية أن الملك محمد السادس لم يكن على عِلم بطبيعة الجرائم التي ارتكبها كالفان، ثم ألغى العفو وطالب باسترداده من إسبانيا ثم حمَّل حفيظ بن هاشم، المندوب السامي للسجون، مسؤولية الخطأ.
وإذا كان الملف قد توارى بعد ذلك، فإن خروج احتجاجات على قرار مَلكي، كان محطّة هامة بالمغرب، بل إن شعارات حركة 20 فبراير التي أطرت حراك المجتمع المغربي في سياق الربيع العربي مطالبة بالإصلاحات الدستورية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية، لم تصل إلى مستوى ما وصلت إليه الشعارات التي رُفعت في سياق الإحتجاج على العفْو الملكي عن كالفان.
اختراقات حقوق الإنسان
خارِج ملفّات الحكومة، احتلت مسألة الحريات وحقوق الإنسان مكانة هامة. إذ رغم التقدّم الواضح والملموس في هذا الميدان، إلا أن هناك اختراقات تحدُث بين الفينة والأخرى، كان أبرزها في عام 2013، اعتقال الصحفي المغربي البارز علي أنوزلا، ناشر موقع “لكم. كوم” على خلفية نشْر الموقِع خبرا عن شريط فيديو لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، يُحرِّض فيه على “الجهاد” ضدّ النظام الملكي بالمغرب، مع نشر الموقع لرابط صحيفة “الباييس” الإسبانية التي نشرت الشريط، ولم تكتفِ السلطات باعتقاله بطريقة غيْر لائقة والتحقيق معه، بل أمرت بإحالته إلى المحكمة الجنائية، مع أن ما هو مُتابَع به يتعلّق بالنشر، ووجّهت له تُهم ثقيلة تتعلّق بدعم وتشجيع الإرهاب.
كانت القِراءة السائدة لاعتقال أنوزلا أنه جاء انتقاما منه على خلفية مواقِفه الجريئة والشجاعة في نقْد أصحاب القرار، وصلت أحيانا للملك، لتدبيرهم مُختلف الملفّات الكُبرى بالبلاد، وقد أثار الإعتقال احتجاجات محلية وإقليمية ودولية، وصلت إلى الخارجية الأمريكية التي رأت في اعتقال أنوزلا “مسّا بحرية الصحافة”. وفي محاولة لتجاوز الآثار السلبية للملف، قرّرت المحكمة إخلاء سبيله ومتابعته بحالة سراح، ليبقى الملف جاهزا للفتح في أي وقت تراه السلطات مُناسبا.
وفي الوقت الذي كان فيه النقاش دائرا حول ملف أنوزلا، كان مشروع قانون الصحافة ولا زال، بين أيدي لجنة برئاسة محمد العربي المساري، نقيب الصحفيين السابق ووزير الإتصال الأسبق، إلا أن مشروع القانون لم يصِل للبرلمان بعدُ.
في الوقت نفسه، شكّلت حقوق الإنسان مِحور بعثات من منظمات ومندوبيات للأمم المتحدة، مناهضة للتعذيب والاختفاء القسري وغيرها، زارت المغرب خلال سنة 2013. ومع أن الملاحظات السلبية التي وردت في تقاريرها لا تقلِّل من الإنجازات المغربية في هذا الميدان، إلا أنه من الملاحظ في عمل ونشاط هؤلاء، تركيزهم على منطقة الصحراء الغربية، بعد أن أصبحت المسائل المتعلقة بهذا الملف مِحور المواجهات بين المغرب وجبهة البوليساريو.
قضية الصحراء تراوح مكانها
قد تكون قضية الصحراء الغربية، أو ما يُعرف مغربيا بقضية الوِحدة الترابية، قد تركت بصماتها على سنة 2013 في المملكة، رغم أنها بقيت تراوح مكانها دون أي تقدّم، لكنها كانت تفعل ذلك بحركة سريعة وساخنة، بل ومُتعبة للمغرب في ميدان حقوق الإنسان.
فالنِّزاع المفتوح منذ 1975 مع جبهة البوليساريو، المدعومة من طرف الجزائر، لا زال مصيره مجهولا وآفاق تسويته لا زالت ضبابية.. أما الأمم المتحدة التي تولّت التسوية منذ عام 1985، فلا زالت مُكتفية بما أنجزته ابتداء من عام 1991 أي وقْف إطلاق النار ونشْر بعثة للأمم المتحدة بالمنطقة، من بينها قوات لمراقبة وقْف إطلاق النار، لكنها – ومن أجل أن لا يُنسى الملف – أبقت البعثة تراقب، وموفديها يتجوّلون، حاملين معهم تقارير عن التطوّرات، ولكن دون تقديم أفكار تسمح بتحقيق اختراق حقيقي وملموس للجمود الذي تعرفه عملية التسوية، رغم التصريحات المتفائلة الصادرة عن كريستوفر روس، مبعوث الأمم المتحدة، الذي عاد لاستئناف مهمّته في بداية سنة 2013 بعد تحفّظات مغربية على مواقفه.
ونظرا لأن حقوق الإنسان تحولت إلى مسألة ذات طابع كوني تلعب دورا أساسيا في العلاقات الدولية، وأصبحت بندا دائم الحضور في الإتفاقيات التي توقع عليها الدولة المغربية، وخاصة مع الإتحاد الأوروبي، استطاعت جبهة البوليساريو واللّوبيات المساندة لها، المنتشرة في الولايات المتحدة وأوروبا، الإستفادة من حالات انتهاكات تُرتَكب “بشكل فردي وليس منهجي” في المدن الصحراوية. وفي بعض الأحيان، ينجح الناشطون الصحراويون المؤيِّدون للجبهة، في استفزاز السلطات المغربية لارتكاب مثل هذه الإنتهاكات، بهدف تحقيق مكسب سياسي إضافي يتلخص في “توسيع صلاحيات” بعثة “مينورسو” لتشمل مستقبلا مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء الغربية والتقرير بها لمجلس الأمن الدولي.
التغيير بالتراكُـم
لقد كان من الواضح أن مسألة حقوق الإنسان، تحولت إلى معركة حقيقية في النزاع الصحراوي، إلا أن الأطراف التي يُفترض أن تخوضها، لا يُمكن أن تقتصر على الدولة أو الهيئات الرسمية فقط، خصوصا وأن الهيئات والمنظمات غير الحكومية في دول مثل أوروبا، تلعب دورا حاسما في عملية اتخاذ القرار. ونظرا لأن ملف النزاع كان بيَد القصْر تحديدا، كان بقية الفاعلين بحالة استقالة، لذلك خصّص العاهل المغربي الملك محمد السادس جزءا من خطاباته في الفترة الأخيرة لتحفيز هؤلاء على القيام بدورهم.
في شهر أبريل 2013، نجحت جبهة البوليزاريو واللوبيات المؤيدة لها في الولايات المتحدة على تحفيز الإدارة الأمريكية على تقديم مشروع قرار لمجلس الأمن يتضمّن ذلك المقترح، وهو ما كاد أن يشكل خطرا على ما يتمتّع به المغرب من سيادة على المنطقة، إلا أن تحرّكا عربيا وحسابات أمريكية أوروبية دفعت واشنطن في نهاية المطاف إلى سحب مشروعها واستبداله بمشروع آخر أقل سوءا بالنسبة للمغرب، دون أي ضمانات بعدم عودة واشنطن إلى طرح مشروعها مجددا في شهر أبريل القادم، رغم الزيارة التي قام بها الملك محمد السادس إلى واشنطن في أكتوبر الماضي.
من خلال هذه الإطلالة السريعة، يُمكن القول أن سنة 2013 المغربية لم تختلف عن السنوات التي سبقتها، لكنها حملت الكثير في طيّاتها وفي أعماقها، وهي طبيعة الفِعل السياسي المغربي المبنيّ على التغيير بالتراكم، وهو تراكُم تنتجه قرارات خاطِئة تتبعها ردود فعل غاضِبة أو هو الإستقرار الذي يُبنى بالتدريج وبخطوات وئيدة لكنه يبقى ويستمر.