مأساة كبرى وأسئلة حارقة
سوريا 2014: ماذا سترى البشرية حين تنظر في المرآة؟
بقلم : سعد محيو – بيروت
لماذا لا يبذل الإعلام العربي والدولي سوى اهتماما خافتا وضئيلا للغاية بالوضع الإنساني المُرعب في سوريا؟ سنحاول الإجابة على هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، وقفة سريعة أولاً أمام ما يجري وراء دخان العمليات العسكرية للجيشين، الحر والنظامي وجيوش الميليشيات الأخرى، والمداولات السياسية حول مصير سوريا في أفخم فنادق جنيف واسطنبول وباريس وموسكو، والصراعات الإقليمية حول الحصص والأدوار والأحجام في “الجثة السورية”.
وفق تقرير أخير للأمم المتحدة، قذفت الحرب بأكثر من 8 ملايين سوري إلى ما تحت خط الفقر، نصفهم في حالة فقر مدقع للغاية. هذا في حين أن نحو نصف سكان سوريا أصبحوا إما مهجّرين أو نازحين. في الوقت نفسه، بلغت البطالة 50% وبات المتسوّلون مشهداً ثابتاً في دمشق وباقي المدن السورية، فيما خسر الإقتصاد السوري خلال سنتين اثنتين أكثر من 100 مليار دولار.
الأخطر من هذا وذاك، هو أن الأزمة أسفرت عن ولادة “طبقة” جديدة من أثرياء الحرب، تضم خليطاً من أرباب السلطة ورجال الأعمال وبعض اللصوص في تيارات المعارضة. وهذه النخبة “باتت هي العقبة الكبرى أمام أي حل سياسي وسِلمي في البلاد”، كما جاء في تقرير لـ “فايننشال تايمز” (1 ديسمبر 2013)، التي نسبت أيضاً إلى رجل أعمال موالٍ للحكومة قوله: “إذا ما قسمت الناس بين من يريد وقف القتال وبين من لا يريد ذلك، لأنه مستفيد منه، أعتقد أن الأغلبية ستكون من الصنف الثاني”.
أرباح هذه النخبة، التي تتأتّى من التهريب والفساد واستيراد المواد الغذائية والطبية والمازوت المهرّب، تبلغ ملايين الدولارات في اليوم، يتقاسمها أركان هذه النخبة الرئيسيين بـ “العدل والقسطاس”، ويحوّلون معظم هذه الأموال إما إلى مصارف موسكو أو إلى فريق ثالث في المصارف اللبنانية.
النظام السوري، كنظام وحكومة، يقتطع نسبة كبيرة من هذه الأرباح لتمويل آلته العسكرية وجيوب أركانه الرئيسيين، فيما تتكفل إيران وإلى حد أقل بكثير روسيا والصين، بدفع رواتب أكثر من ستة ملايين موظف رسمي سوري.
أما في جبهة تيارات المعارضة المتنوّعة للغاية، فقد برز في بعض صفوفها متربّحون من شتّى الأنواع: مهربون وفارضو جزية وقاطعو طرق و”مستقطِعو” أموال المساعدات المالية والعينية السعودية والقطرية. ويلخّص رجل أعمال دمشقي الوضع بالكلمات الآتية: “سوريا الآن هي أرض الفرص لرُعاة البقر واللصوص والمجرمين
جهنم حقيقية..
نعود الآن إلى سؤالنا الأولي: لماذا تختفي هذه الصورة اللاإنسانية واللاأخلاقية، إلا لماماً، من أجهزة الإعلام بمختلف صنوفها؟ وكيف يمكن لملايين العرب ومليارات البشر أن يقفزوا فوق أنين مئات آلاف الأطفال وعويل النساء وجوع الرجال، ليهتمّوا فقط بتقدّم الجيش النظامي نحو قرية في الغوطة أو في هجوم مضاد للجيش الحُر والجماعات الإسلامية في ريف حلب أو في “دور” أو “لا دور” بشار الأسد في مستقبل بلاد محطّمة الأضلاع ومكسّرة الأجنحة؟
سوريا هي الآن جهنّم حقيقية لشعبها ومرتعٌ للصوص والمجرمين والقتلة. لكن الإعلام لا يحكي لنا سوى عن قِصص المصالح الإقليمية والدولية والمناورات الدبلوماسية “الذكية” ومشاريع التسوية التي لا تأتي أبدا.
وهنا، كان مثيراً للإنتباه، وبالطبع للأسى، أن يقول دبلوماسي غربي كبير إن “مؤتمر جنيف 2 قد لا يُعقد، وإذا عُقد قد لا ينجَح، وإذا نجح فسيحتاج الأمر إلى سنوات عدّة لتطبيق قراراته، وحينها يكون الشعب السوري برمّته قد أصبح في خبر كان”.
سيُبادر البعض هنا إلى القول: ليس في هذا الأمر لا مؤامرة ولا تخطيط مقصود. فما نرى الآن ليس سوى تِكرار لتاريخ بشري هو كناية كله عن سجل حروب إجرامية وتاريخ أكثر إجراماً لهذا السجل. إنه الوعي البشري نفسه وهو لا يزال غير قادر على مغادرة عقلية الكهف القائمة على زوج الخوف – العدوانية في الصراع من أجل البقاء، في حين أن التطور التكنولوجي – العلمي نسف كل أسس الصراع على الماء والكلأ وباقي مقوّمات البقاء.
تحليل صحيح، لكن الصحيح أيضاً، أن هذا السجل الإجرامي المتّصل للتاريخ البشري تضمّن الكثير والكثير من مراحل الإنقطاع، التي وُلِدت فيها القِيم والمبادئ الإنسانية السامية، من شريعة حمورابي في عام 1790 (ق. م.) إلى الأم تيريزا في القرن العشرين، مروراً بالبوذية والطاوية والكمّ الكبير من الفلاسفة والأنبياء الذين بشّروا بوحدة الوجود والكائنات وبسُموّ النفس البشرية.
والسؤال: أين أنصار مراحل الإنقطاع الأخلاقية – الروحية هذه من مأساة الشعب السوري الرّهيبة؟ وأين الأطنان من مواثيق الأمم المتحدة حول حقوق الإنسان ومن مبادئ مجلس الأمن حول حق الشعوب في الحماية من جرائم الإبادة الجماعية؟
إما “التطور” أو “الإنقراض”
لم يعد السوريون يُعوِّلون على مراكز المجتمع الدولي، لأن الأمل فيها مفقود. ولو لم يكن الأمر على هذا النحو، لما كان إعلام هذا المجتمع قد فرض حظراً حقيقياً على صور هذه المأساة، لأن أصحاب القرار السياسي والإقتصادي فيه قرّروا إشاحة وجوههم عنها، تبعاً لمصالحهم “القومية” (كما جرى في رواندا والعراق ولبنان وكمبوديا، والعد مستمر).
شكوى السوريين في أواخر عام 2003 كانت برسم “الإخوة” العرب، مواطنين ونخباً، الذين إن لم تحرِّكهم هذه الكارثة الإنسانية، فكان يُفترض على الأقل أن يشعروا بوخز ضمير وهُم يسمعون نداء استغاثة طفل سوري بلُغَتهم العربية، أو دعاء أم باكية بلُغة القرآن، أو حتى مشاعر قرابة ولو بعيدة من 10 ملايين مواطن سوري قُذِفَ بهم إلى جهنّم بلا شفقة أو رحمة.
هل نسمع أحداً يهمس بأن مثل هذا الكلام “لاسياسي” و”مثالي”، وبالتالي، لن يقدِّم أو يؤخِّر في شيء على أرض الواقع؟ إذا ما كنا نسمع صحيحاً، فينبغي على مَن يقوله أن يعلن استقالته أيضاً من أي أمل بأن تخرج البشرية من جهنمها الراهنة، وأن يقبل بأن انقراض هذا العرق الذكي من المخلوقات آتٍ لا محالة.
في أواخر عام 2013، أعلنت الأمم المتحدة أن الأزمة السورية باتت “أسوأ كارثة إنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية”. والآن، وإذا استمرت الحرب على هذه الوتيرة في العام الجديد 2014، فإن الأزمة قد تُصبح أسوأ كارثة في التاريخ البشري كله، لأنها ستطال كل من تبقّى من الـ 22 مليوناً من البشر الذين لم يُشرّدوا أو يُهجّروا أو يُقتلوا بعدُ، وكل ما تبقّى من الحجر الذي لم يُدمّر بعد.
وبالتالي، فإن المسألة الرئيسية في سوريا في العام الجديد، لن تكون نجاح أو فشل الحلول السياسية في جنيف 2 أو جنيف 3 أو حتى جنيف 4، بل في نجاح البشرية في النظر إلى نفسها في المرآة السورية من دون أن تلعن ما ترى!
ونقلت اللجنة في بيان صدر عنها عن رئيس بعثتها في سوريا ماغني بارث أن “حصيلة القتلى ترتفع. (…) هناك نصف مليون جريح تقريبا في كل أنحاء سوريا والملايين لا يزالون نازِحين وعشرات الآلاف مُعتقلين”. وتابع أن “الإمدادات بالغذاء والحاجات الأخرى الأساسية تنفد بشكل خطير، لاسيما في المناطق المحاصرة”.
وأشار بارث إلى أن “شرائح واسعة من السكان، لاسيما في مناطق متأثرة مباشرة بالقتال، بما فيها شرق حلب، تُعاني من نقص في العناية الطبية“. ودعا البيان “كل الأطراف في سوريا إلى تطبيق القانون الإنساني الدولي”.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد قتل في النزاع السوري المُستمر منذ منتصف مارس 2011 أكثر من 126 ألف شخص، فيما أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في بيانها الأخير أن 32 متطوّعا في الهلال الأحمر السوري قتلوا خلال النزاع.