المثقفون العرب بين خائف على المستقبل وخائف منه

المبدع بالأصل مولود من رحم الحرية من جهة وضد العتيق من جهة أخرى، إنه ضد كل من يسلب الأنا فضاءه وكل من يصطاده الممكن’.
عن صحيف العرب أحمد برقاوي [نُشر في 27/12/2013، العدد: 9421،
قلنا المبدع ولم نقل المثقف، جريا على المألوف. فنحن هنا أكثر تحديدا وبالتالي أكثر قدرة على التقاط الموقف. فالعينة هنا واضحة لا يشوبها إلا الاتفاق على ماهية المبدع وعلى نسبة المنتمين إلى الإبداع. ولسنا في معرض عقد جلسة محاكمة لنقرر من هو المبدع العربي الذي يتميز عن سواه وعمن ليس بمبدع. المبدع عندي هو الفيلسوف والشاعر والروائي والمسرحي والقاص والمخترع والموسيقي والرسام والنحات والمخرج والممثل وما شابه ذلك. ولأننا لسنا في معرض التقويم للإبداع بل في رصد الموقف فكل من يراه الناس مبدعا وكل من يرى نفسه مبدعا من هؤلاء جميعا هو مبدع. وليس غريبا أيضا أن سمت العرب هؤلاء بالمبدعين، فالفعل أبدع يساوي خلق على غير غرار، بل هو أقوى من فعل خلق، لأن الإبداع إيجاد من العدم. والمبدع والبديع وبادع أسماء أفعال. دعوني الآن من التعريفات الأكاديمية الجافة والقاموسية المتسلطة. المبدع هو المتمرد على المألوف من اللغة والوقائع والأشياء، المتمرد على العالم والساعي إلى عالم غير مألوف، المبدع هو بطل التجاوز، ولأن المبدع هو هكذا فهو بالضرورة مع الربيع منطقيا، وإذا كان واقعيا ليس مع الربيع ففي الأمر هوية عميقة ومصلحة زائفة تمنعانه من أن يكون نصير ذاته، لأن المبدع هو في حد ذاته ربيع.

وأنى التفت وجدت الأكثرية من المبدعين العرب منخرطين في الربيع العربي بهذا الشكل أو ذلك وليس في الأمر غرابة.

فالمبدع بالأصل مولود من رحم الحرية من جهة وضد العتيق من جهة أخرى . إنه ضد كل من يسلب الأنا فضاءه. وكل من يصطاده الممكن.

فأنى لمن يرى الحياة ممكنات أن يرضى بسلط تجمد الواقع والتاريخ وتعلن بكل صلافة وغباء أنها أحسن العوالم الممكنة، ولا ممكن على هذه الأرض سواها. بل إن المبدع يصل في شطحاته إلى مرحلة الدفاع عن المستحيل ولهذا فهو ضد الرضى عن أي عالم كان.

المبدع الحق وجدان حق مفعم بالحب والألم والطفولة، بالفرح والحزن.

والوجدان لا ينفصل. فمن يهز وجدانه تدحرج رأس المعري الحجري في معرة النعمان ولا يهز وجدانه الأطفال الذين فقدوا الحياة، والأرواح التي تزهق بالبراميل المتفجرة، ليس له وجدان. المبدع لا يختفي وراء عقل بارد خائف على حداثة زائفة لسلط تنتمي إلى القرون الوسطى وما قبل ذلك في رد فعلها على البشر، بل المدافع عن حداثة حقيقية يكون فيها الإنسان مركز العالم ضد كل أشكال القهر.

بل إن بعض المبدعين الخائفين على المستقبل هم كذَبة. لأن الخائف على المستقبل هو مدافع عن واقع قتل المستقبل وأبناء المستقبل. الخائف من المستقبل هو منحاز إلى الماضي الذي يمثله الواقع. الربيع العربي عملية تاريخية طويلة، وليس فصلا من فصول الحياة بل نريده فصل الحياة الوحيد. ولهذا فهو ليس مجرد إزاحة سلطة عن سدة الحكم كما يظن أصوليو الغنيمة ومثقفو الغنيمة الذين أظهروا أحقادهم على كل المدافعين عن الحداثة والتحديث والتنوير متوعدين بالانتقام ممن أداروا ظهرهم للأب. ولهذا ليس غريبا أن تجد مثقفي الأب المدشدش والمعمم والملتحي خلوا من أيه لمعة إبداعية. فمن ذا الذي يستطيع أن يبدع دون أن يقتل أباه أصلا. المبدع العربي اليوم يعيش ذاته التي تعينت ولهذا تراه غارقا بالهم المعبر عنه بالقصيدة والمسرحية والفكر والمقالة واللوحة. فيما ثقافة السلطان وثقافة الغنيمة خلو من المبدعين. وآية ذلك أن هناك ترابطا بين الإبداع والحرية كما قلنا بين المبدع والجناح.

* كاتب واكاديمي من فلسطين مقيم في الإمارات

‫شاهد أيضًا‬

الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي

على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…